۩۞۩۞ شبكة رونق الحرف ۞۩۞۩

فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902
زائرنا الكريم : انت غير مسجل في المنتدى او لم تسجل معلومات الدخول بعد فرجاءنا منك التسجيل اولا للمشاركة في المنتدى وان كنت تريد القراءة فقط فدونك اقسام المنتدى اهلا وسهلا بك... فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923
يا ضيفنا لو جئتنا لوجـــدتنا ....نحن الضيوف وانت رب المنزل

فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

۩۞۩۞ شبكة رونق الحرف ۞۩۞۩

فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902
زائرنا الكريم : انت غير مسجل في المنتدى او لم تسجل معلومات الدخول بعد فرجاءنا منك التسجيل اولا للمشاركة في المنتدى وان كنت تريد القراءة فقط فدونك اقسام المنتدى اهلا وسهلا بك... فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 61923
يا ضيفنا لو جئتنا لوجـــدتنا ....نحن الضيوف وانت رب المنزل

فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902 فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام 358902

۩۞۩۞ شبكة رونق الحرف ۞۩۞۩

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ادبية معلومات اخبارية تقنية طبية موسوعية

آخر المواضيع






<div style="background-color: none transparent;"><a href="http://www.rsspump.com/?web_widget/rss_widget/twitter_widget" title="web widget">Twitter Widget</a></div>



    فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام

    الماستر
    الماستر
    الاداريون
    الاداريون


    رسالة sms رسالة sms : مرحبا بك
    زائر


    عدد المساهمات : 4802
    تاريخ التسجيل : 04/10/2009
    العمر : 41
    الموقعhttps://adeladel.ahlamontada.com

    حصري فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام

    مُساهمة من طرف الماستر الإثنين 27 يونيو 2011, 6:03 am

    الفصل الأول: الأصل الكريم والمولد المبارك



    يبدو أن قرية ( الأبواء ) الواقعة بين المدينة ومكة ، كانت تستقطب قوافل الحجاج من آل البيت أكثر من غيرها ، لأنها كانت مثوى أم الرسول آمنة بنت وهب .

    وفي طريقهم إلى المدينة قافلين من حج بيت اللـه الحرام(1) حطت قافلة الإمام أبي عبد اللـه الصادق (ع) في هذه القرية ، وذلك في اليوم السابع عشر من شهر صفر الخير ، عام 128 هـ - على أشهر الروايات -، حيث قدم الإمام المائدة لضيوفه ، وجاءه الرسول من عند نسائه تبشره بالوليد المبارك .

    تقول الرواية التاريخية - المأثورة عن منهال القصّاب قال : ( خرجت من مكة وأنا أريد المدينة ) فمررت بالأبواء وقد ولد لأبي عبد اللـه (ع) فسبقته إلى المدينة ، ودخل بعدي بيوم فأطعم الناس ثلاثاً ، فكنت آكل فيمن يأكل ، فما آكل شيئاً إلى الغد حتى أعود فآكل ، فمكثت بذلك ثلاثاً أطعم حتى أرتفق ثم لا أطعم شيئاً إلى الغد ) .

    وجاء في حديـث مـروي عـن ابي بصير قال : ( كنت مع أبي عبد اللـه (ع) في السنة التي ولد فيها إبنه موسى (ع) ، نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد اللـه (ع) الغذاء ولأصحابه وأكثره وأطابه ، فبينما نحن نتغدى إذ أتاه رسول حميدة أن الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا .

    فقام أبو عبد اللـه فرحاً مسروراً ، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنّه ، فقلنا : أضحك اللـه سنّك ، وأقر عينك ، ما صنعت حميدة ؟

    فقال : وهب اللـه لي غلاماً وهو خير من برأ اللـه ، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها ، قلت : جعلت فداك وما خبّرتك عنه حميدة ؟ قال : ذكرت أنه لما وقع من بطنها وقع واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء ، فأخبرتها أن تلك أمارة رسول اللـه (ص) وأمارة الإمام من بعده .

    فقلت : جعلت فداك وما تلك من علامة الإمام ؟ فقال : إنه لما كان في الليلة التي علق بجدي فيها ، أتى آتٍ جدّ أبي وهو راقد ، فأتاه بكأس فيها شربة أرقّ من الماء ، وأبيض من اللّبن ، وألين من الزبد ، وأحلى من الشهد ، وأبرد من الثلج ، فسقاه إيّاه وأمره بالجماع ، فقام فرحاً ومسروراً فجامع فعلق فيها بجدّي ، ولما كان في الليلة التي علق فيها بأبي أتى آتٍ جدي فسقاه كما سقى جدّ أبي وأمره بالجماع ، فقام فرحاً مسروراً فجامع قعلق بأبي ، ولما كان في الليلة التي علق بي فيها ، أتى آتٍ أبي فسقاه وأمره كما أمرهم ، فقام فرحاً مسروراً فجامع فعلق بي ، ولما كان في الليلة التي علق فيها بابني هذا أتاني آتٍ كما أتى جدّ أبي وجدّي فسقاني كما سقاهم ، وأمرني كما أمرهم ، فقمت فرحاً مسروراً بعلم اللـه بما وهب لي ، فجامعت فعلق بابني هذا المولود ، فدونكم فهو واللـه صاحبكم من بعدي ) (2).

    فلما أن عاد الإمام إلى المدينة أطعم الناس ثلاثاً وتباشر الناس بالوليد المبارك .



    أبواه :

    والده : إمام الهدى أبو عبد اللـه جعفر بن محمد الصادق (ع) .

    والدتـــه : حميدة البربرية التي ربما كانت من الأندلس أو من المغرب ، وكانت تلقب بـ ( حميدة المصفـــاة ) .

    وقد كانت حميدة من فضليات النساء حيث اضطلعت بمهمة نشر الرسالة ، وقد روت بعض الأحاديث عن زوجها (ع) .

    فعن ابن سنان ، عن سابق بن الوليد ، عن المعلّى بن خنيس أن أبا عبد اللـه (ع) قال : ( حميدة مصفّاة من الأدناس ، كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أُدِّيت إليَّ كرامةً من اللـه لي والحجة من بعدي ) (3) .



    صفاته :

    كانت ملامحه الشخصية (ع) تعبر عن تلك النفس الكبيرة ، وتلك المسؤولية العظمى التي كان عليه أدائها . ذلك الهاشمي الكريم أزهر الملامح ، مربع القامة ، تمام خضر ، حالك ، كث اللحية ، يفيض مطابة وجلالاً .

    وتكشف ألقابه عن الصفات الرسالية التي تجلّت فيه فهو : الكاظم والصابر والصالح ، والأمين . وفعلاً كانت حياته حافلة بتجليات هذه الصفات الفضيلة .



    نشأته :

    خلال عشرين عاماً من عمره الشريف كان والده الإمام أبو عبد اللـه الصادق (ع) يتعهده بالرعاية ، ويشير إلى فضائله ويبين لخاصة أوليائه أنه سيد ولده ، وأنه الإمام من بعده .

    إن الإمامة لابد أن تكون بنص صريح ، وقد تواترت النصوص على الأئمة الإثني عشر من الرسول الأكرم (ص) ، وهكذا كان كل إمام يوصي بمن بعده ، فلهذا كان الموالون لآل البيت (ع) حريصين على التأكد من إمامهم يسألون السلف عن الخلف .

    يــروي عبد الرحمن بن الحجاج يقول : دخلت على جعفر بن محمد في منزله وهو في بيت كذا من دار ،

    في مسجدٍ له وهو يدعو ، وعلى يمينه موسى بن جعفر يؤمِّن على دعائه ، فقلت له : جعلني اللـه فداك قد عرفت انقطاعي إليك ، وخدمتي لك ، فمن وليّ الأمر بعدك ؟ قال : ( يا عبد الرحمن إن موسى قد لبس الدرع فاستوت عليه ، فقلت له : لا أحتاج بعدها إلى شيء ) (4) .

    وكان الإمام الصادق (ع) يوصي سائر أبنائه بحق ابنه موسى (ع) ، فهذا عبد اللـه بن جعفر أكبر سناً من الإمام موسى يتحدث إليه والده ويقول له : ما يمنعك أن تكون مثل أخيك ، فواللـه إني لأعرف النور في وجهــــه ، فقال عبد اللـه : وكيف ؟ أليس أبي وأبوه واحداً ؟ وأصلي وأصله واحداً ؟ فقال له أبو عبد اللـــه : ( إنه من نفسي وأنت ابني ) (5) .

    وكانت حياة الإمام موسى (ع) متميّزة منذ الصبا ، ولذلك فقد كانت في ذلك أمارة مقامه العظيم . جاء في حديث مأثور عن صفوان الجمّال وهو من خواصّ الشيعة ، سألت أبا عبد اللـه عن صاحب هذا الأمر ، قال : صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب ، وأقبل أبو الحسن وهو صغير ومعه بهمة عناق مكية (6) ويقول لها: ( اسجدي لربك ، فأخذه أبو عبد اللـه وضمه إليه وقال بأبي أنت وأمي من لا يلهو ولا يلعب ) (7) .

    وهكذا شبّ موسى بن جعفر محبوباً بين إخوته بسبب وصفه المميز ، وعملا بوصايا والده بحقه ، فكان بين إخوته المتمسّكين بولاية علي بن جعفر ، جاء في الحديث المأثور عن محمد بن الوليد قال :

    ( سمعت علي بن جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول : سمعت أبا جعفر بن محمد (ع) يقول لجماعة من خاصته وأصحابه : استوصوا بموسى ابني خيراً فإنه أفضل ولدي ، ومن أخلّف من بعدي وهو القائم مقامي والحجة للـه عزّ وجلّ على كافة خلقه من بعدي ، وكان علي بن جعفر شديد التمسك بأخيه موسى، والإنقطاع إليه ، والتوفر على أخذ معالم الدين منه ، وله مسائل مشهورة عنه ، وجوابات رواها سماعاً منه، والأخبار فيما ذكرناه أكثر من أن تحصى على ما بيًّناه ووصفناه ) (8) .

    ولأن عهد الإمام الصادق (ع) مميَّز ببعض الانفراج ، وقد انتشرت معارف أهل البيت وأصبح مذهبهم من بين المذاهب الأكثر شيوعاً واتباعاً في العالم الإسلامي ، فلقد كان الخوف على مستقبل الطائفة شديداً ، حيث كان يخشى من طمع بعض القيادات في الرئاسة على الطائفة ، وربما انجرف معهم بعض أولاد الإمام الصادق أو أحفاده ، لذلك فقد كان تأكيد الإمام على أن الوصي بعده ابنه موسى شديداً ومستمراً .

    وهكذا كان فلقد انحرف البعض وزعم أن الوليّ بعد الإمام الصادق ( عليه السلام ) ابنه الأكبر إسماعيل، وقالوا بأنه لم يمت على عهد أبيه إنما غاب عن الأنظار .

    وكانت الفرقة الإسماعيلية ذات الشوكة التي أسست أكبر حركة ثورية بعد الحركة الرسالية ، وبَنت دولة عظيمة في شمال إفريقيا وكانت هذه الحركة وليدة هذا التصور الخاطىء .

    من هنا أشهد الإمام الصادق (ع) كبار شيعته على وفاة ابنه وأكد لهم أن الوصي الحق بعده إنما هو موسى (ع) .

    فلقد روي عن زرارة بن أعين أنه قال :

    ( دخلت على أبي عبد اللـه (ع) وعن يمينه سيد ولده موسى (ع) وقدّامه مرقد مغطى ، فقال لي : يا زرارة جئني بداود الرّقي ، وحمران ، وأبي بصير ، ودخل عليه المفضل بن عمر ، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره ، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد ، حتى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً .

    فلما حشد المجلس قال : يا داود اكشف لي عن وجه اسماعيل ، فكشف عن وجهه ، فقال ابو عبد اللـه (ع) : يا داود أحيّ هو أم ميت ؟ قال داود : يا مولاي هو ميت ، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل ، حتى أتى على آخر من في المجلس وكل يقول : هو ميت يا مولاي ، فقال : اللـهم اشهد ثم أمر بغسله وحنوطه ، وإدراجه في أثوابه .

    فلما فرغ منه قال للمفضل : يا مفضل أحسر عن وجهه ، فحسر عن وجهه فقال : أحيّ هو أم ميت ؟ فقال ميت قال : اللـهم اشهد عليهم ، ثم حمل إلى قبره ، فلما وضع في لحده قال : يا مفضل أكشف عن وجهه ، وقال للجماعة : أحيّ هو أم ميت ؟ قلنا له : ميت فقال : اللـهم اشهد ، واشهدوا فإنه سيرتاب المبطلون ، يريدون إطفاء نور اللـه بأفواههم ثم أومأ إلى موسى ، واللـه متم نوره ولو كره المشركون ، ثم حثوا عليه التراب ، ثم أعاد علينا القول فقال : الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو ؟ فقلنا : إسماعيل قال : اللـهم اشهد ، ثم أخذ بيد موسى (ع) وقال : هو حق والحق معه ومنه ، إلى أن يرث اللـه الأرض ومن عليها ) (9) .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) راجع موسوعة بحار الأنوار : ( ج 48 ، ص 4 ) وأيضاً كتاب المحاسن للبرقي : (ج 2 ، ص 418) .

    (2) موسوعة البحار : ( ج 48 ، ص 2 ) .

    (3) المصدر : ( ص 6 ) نقلاً عن الكافي : ( ج 1 ، ص 477 ) .

    (4) المصدر : ( ص 181 ج 48 ) .

    (5) المصدر .

    (6) البهمة الواحدة من الضأن ، والعناق الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم لها سنة .

    (7) المصدر .

    (8) المصدر . ( ص 20) .

    (9) المصدر : ( ص 21) .


    الفصل الثاني: الإمام وعصـره



    عصر الإمام موسى بن جعفر (ع):

    لقد كانت مدّة إمامة الكاظم (ع) خمسةً وثلاثين عاماً حيث اضطلع بها منذ أن كان عمره عشرين ربيعاً عام 148 هـ إلى أن استشهد عام 183 هـ وعمره خمسة وخمسون عاماً .

    وهكذا عاصر من ملوك بني العباس بقية ملك المنصور ، وملك المهدي لمدة ( 10) سنوات ، والهادي لمدة سنة واحدة ، وهارون الملقب بالرشيد لمدة (15) عاماً .

    وكان ملك بني العباس من أقوى ما يكون خلال هذه الفترة حتى سمّي عصر الرشيد بالعصر الذهبي ، ولا ريب أن قوة البلاد الإسلامية خلال هذا العصر لا يمكن قياسها بسائر العصور ، وفي ذات الوقت كانت الحركة الرسالية قد بلغت من القوة خلال عهد الإمام الكاظم (ع) ما أهّله للقيام بثورة شاملة لولا بعض الأقدار التي منعت اندلاع الثورة ، وأخرت نجاحها .

    وقد بلغ الصراع بين السلطة العباسية والحركة الرسالية الذَّروة في عهد الرشيد ، حيث نستوحي من مجموعة نصوص وحوادث تاريخية أن مخطط الثورة كان جاهزاً ، وأن السلطة العباسية قد فشلت في احتواء الثورة على أنها كانت في عصرها الذهبي ، ذلك لأن أنصار الحركة الرسالية قد ازدادوا ليس فقط بين الناس بل كان بعض كبار رجالات الدولة يميلون إلى حدٍ ما إلى الحركة الرسالية ، ولعل ذلك يفسر لنا محاولة المأمون العباسي خليفة الرشيد ، للتقرب إلى البيت العلوي وبالذات إلى الإمام علي بن موسى الرضا (ع) الذي قتل الرشيد والده (ع) . والحوادث التي تهدينا إلى تلك الحقيقة هي التالية :

    هناك بعض الأحاديث التي تدل على أنه كان المقدر أن يقوم الإمام السابع بالأمر ، وقد اشتهر عند الشيعة أنه القائم من آل محمد (ص) وأنه لا يموت حتى يملأ اللـه على يديه الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً .

    فعن أبي حمزة الثمالي قال : قلت لأبي جعفر (ع) إن علياً (ع) كان يقول : ( إلى السبعين بلاء ، وكان يقول : بعد البلاء رخاء ) وقد مضت السبعون ولم نر رخاءً ، فقال أبو جعفر (ع) : ( يا ثابت إن اللـه تعالى قد وقّت هذا الأمر في السبعين ، فلما قتل الحسين اشتد غضب اللـه على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة سنة ، فحدثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع السرّ ، فأخّره اللـه ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو اللـه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) قال أبو حمزة : وقلت ذلك لأبي عبد اللـه (ع) فقــال :

    ( قد كان ذلك ) .

    وهنالك رواية عن داود الرقّي قال : قلت لأبي الحسن الرضا (ع) جعلت فداك أنه واللـه ما يلج في صدري من أمرك شيء إلاّ حديث سمعته من ذريج يرويه عن أبي جعفر (ع) قال لي : ( ما هو) قال سمعته يقول : ( سابعنا قائمنا إن شاء اللـه ) .

    قال : ( صدقت وصدق ذريج وصدق أبو جعفر (ع) ، فازددت واللـه شكاً ، ثم قال لي : ( يا داود بن أبي كلدة ! أما واللـه لولا أن موسى قال للعالم { سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللـه صَابِراً } (الكهف/69) ما سأله عن شيء ، وكذلك أبو جعفر (ع) لولا أن قال إن شاء اللـه لكان كما قال : فقطعت عليه ) .

    لقد بدأ الرساليون في ذلك الظرف يتناقلون الكلام ، وبلغ الأمر إلى السلطات ، إلى درجة أنه شاع وفشى ، فاعتقلت مجموعة من الرساليين وسجنت الإمام (ع) وقتلته بعد ذلك (1).

    ولقد شاعت فكرة قيام الإمام السابع إلى درجة أن السلطة استخدمتها كورقة إعلامية ضد الحركة الرسالية ، بعد أن دسّت السمّ إلى الإمام وقتلته في غياهب سجون بغداد ، كيف ؟

    إن من المعروف أن القائم لا يموت حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً ، وها هو الإمام السابع قد فارق الحياة ، إذاً هو ليس القائم المنتظر .

    وهكذا حاولت السلطة إبراز التناقض في أقوال الحركة الرسالية ، حيث نادى أزلام السلطة على نعش الإمام الكاظم (ع) ما يلي :

    هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت ، فانظروا إليه فنظروا (2).

    والواقع أن ( فشل الثورة ) أو تأخيرها ، واستشهاد الإمام المنتظر لقيادتها ، سبّب صدمة عنيفة لبعض أبناء الحركة الرسالية ، وكان امتحاناً عسيراً لولا ما ظهر بعدئذ من حكمة ذلك حيث تحول الوضع السياسي لمصلحتهم بعد هارون من دون إراقة الدماء .

    ولقد استغل بعض أصحاب المصالح الطامعين في الرئاسة أو المال هذه الصدمة عند السذّج من الناس ، وطفقوا يقولون أن موسى بن جعفر (ع) لم يمت ، وأنه لا يموت حتى يقوم بالأمر .

    ولقد قاوم الإمام علي بن موسى الرضا (ع) هذا المذهب الفاسد ، حتى اضمحل ولم يعد لهم وجود يذكر .

    فمثلاً جاء في الحديث المأثور عن جعفر بن محمد النوفلي قال : أتيت الرضا (ع) وهو بقنطرة أربق (3) ، فسلمت عليه ثم جلست وقلت : جعلت فداك إن أناساً يزعمون أن أباك حيّ ، فقال : كذبوا لعنهم اللـه ، لو كان حياً ما قسم ميراثه ولا نكح نساءه ، ولكنه واللـه ذاق الموت كما ذاقه عليّ بن أبي طالب (ع) (4) .

    وهكذا كانت المواجهة بين السلطة العباسية والحركة الرسالية قد بلغت الذروة ، وكان مخطط الثورة الشاملة جاهزاً لولا إذاعة السرّ ومبادرة السلطة باعتقال الإمام موسى الكاظم . وقد سردنا نصوصاً وشواهد تاريخية على ذلك ، وهناك المزيد من الشواهد نبينها فيما يلي :



    عهد الرشيد : قمة الإرهاب العباسي :

    بسبب تصاعد المد الرسالي ، وازدياد احتمالات سقوط النظام العباسي ، مارس هارون الرشيد إرهاباً لا مثيل له في تاريخ المواجهة بين السلطة العباسية وأئمة آل البيت (ع) .

    لقد كانت التقية - والتي تعني العمل السري - على أشدها في عصر الإمام موسى (ع) ، ولعل لقب الإمام الكاظم يشير إلى أن منهج حياته كان التقية ، وكظم الغيظ عمّا يصيبه من آلام وضغوط .

    وسائر ألقابه أيضاً تدل على ميزة عصره ، فقد كان شيعته يكنون عنه بـ ( العبد الصالح ) و ( النفس الزكية ) و ( الصابر ) وتنوع كناه يدل أيضاً على السرّية التي اتسمت بها الحركة في عصره ، فهو “ أبو الحسن “ و “ أبو علي “ و “ أبو إبراهيم “ وقيل أيضاً “ أبو إسماعيل “ .

    ولقد بقي سيدنا الإمام موسى (ع) فترة طويلة في سجون آل عباس ، وكانت شهادته أيضاً بصورة مأساوية لا يساويها إلاّ شهادة جده أبي عبد اللـه الحسين (ع) ، وذلك يدل على أن خشيتهم كانت عظيمة من قيامه (ع) ضد ظلمهم وإرهابهم ، ذلك لأنه لا أحد من الطغاة كان يفكّر في تكرار غلطة يزيد بن معاوية في قتله لسيد الشهداء (ع) بصورة علنية ، إنما كانوا يفضلوا اغتيال أئمة آل البيت للتخلص منهم ، وللبراءة من دمائهم عند الجماهير المسلمة الذين كانوا يكّنون لآل بيت رسول اللـه كل ولاء واحترام .

    حتى الرشيد الذي استشهد الكاظم (ع) في سجنه ، حاول التبرؤ من دمه ، والتمويه بانه مات حتف أنفه ، أو أن السندي بن شاهك قائد شرطته هو الذي بادر بقتل الإمام دون أمره (5) .

    ومن هنا نعلم أن السلطة لم تخاطر بقتل سيد أهل البيت ، لو لم تشعر بالخوف على مركزها . على أن السلطة قد قتلت - صبراً - الكثير من قيادات البيت العلوي .



    محنة البيت العلوي :

    وهكذا كانت محنة البيت العلوي عظيمة في تلك الحقبة ، حيث أنهم رفضوا التسليم لإرهاب النظام ، فزجّ بهم في السجون الرهيبة ، ومورس في حقهم كل ألوان التعذيب ، كما قتل النظام الكثير منهم صبراً . وإن ذلك لدليل على قوة شوكة المعارضة الرسالية وتهديدها للنظام ، كما هو دليل على مدى احتمال هذا البيت الطاهر للمآسي والمصائب من أجل رسالات اللـه ، ولم يكن عبثاً تأكيد الرسول (ص) على الإهتمام باهل بيته واعتبارهم ورثته ، وجعلهم محور أهل الحق ، وإن مثلهم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهلك .

    وفي القصة التالية بعض تلك المحن العظيمة التي توالت على أهل بيت الرسول من أبناء فاطمة وعلي عليهم السلام .

    عن عبيد اللـه البزاز النيسابوري - وكان مسناً - قال : كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة ، فرحلت إليه في بعض الأيّام ، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السفر لم أغيّرها ، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر .

    فلمّا دخلت إليه رأيته في بيت يجري فيه الماء فسلمت عليه وجلست ، فأتي بطست وإبريق فغسَّل يديه ، ثم أمرني فغسلت يدي واحضرت المائدة وذهب عني أنَي صائم وأني في شهر رمضان ، ثمّ ذكرت فأمسكت يدي ، فقال لي حميد : مالك لا تأكل ؟ فقلت أيها الأمير هذا شهر رمضان ، ولست بمريض ولا بي علّة توجب الإفطار ، ولعلّ الأمير له عذر في ذلك أو علّة توجب الإفطار ، فقال : ما بي علّة توجب الإفطار وإنّي لصحيح البدن ، ثم دمعت عيناه وبكى .

    فقلت له بعدما فرغ من طعامه : ما يبكيك أيّها الأمير ؟ فقال : أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب ، فلمّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفاً أخضر مسلولاً وبين يديه خادم واقف ، فلما قمت بين يديه رفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال ، فأطرق ثم أذن لي في الانصراف .

    فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إليَّ وقال : أجب أمير المؤمنين ، فقلت في نفسي : أنا واللـه أخاف أن يكون قد عزم على قتلي وأنه لما رآني استحيى منّي ، فعدت إلى بين يديه فرفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال والأهل والولد ـ فتبسم ضاحكاً ، ثم أذن لي في الانصــراف .

    فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد الرسول إليَّ فقال : أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله ، فرفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ، فقلت : بالنفس والمال والأهل والولدل والدين فضحك ، ثم قال لي : خذ هذا السيف وامتثل ما يامِّرك به هذا الخادم .

    قال : فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ففتحه فإذا به بئر في وسطه ، وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة ، ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور والذوائب ، شيوخ وكهول وشبّان مقيَّدون ، فقال لي : إنَّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، وكانوا كلهم علويّة من ولد علي وفاطمة (ع) فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه حتى أتيت على آخرهم ، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر .

    ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفسا من العلويّة من ولد علي وفاطمة (ع) مقيدون ، فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمي به في تلك البئر ، حتى أتيت على آخرهم ، ثم فتح باب البيت الثالـث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة (ع) ، مقيدون عليهم الشعور والذوائب فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضاً فجعل يخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه فيرمي به في تلك البئر ، حتى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم ، وبقي شيخ منهم عليه شعر فقال لي : تبّاً لك يا مشؤوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدنا رسول اللـه (ص) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً ، قد ولدهم عليّ وفاطمة (ع) ، فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي فنظر إليَّ الخادم مغضباً وزبرني ، فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته ورمى به في تلك البئر ، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول اللـه (ص) فما ينفعني صومي وصلاتي وأنا لا أشك أني مخلد في النار (6) .



    محنة العلماء الرساليين :

    وكانت محنة العلماء الكبار من الموالين لآل البيت عظيمة أيضاً أو ليسوا شيعة آل محمد (ص) ؟ فلابد أن يقتدوا بهم في بلائهم ، ومن أعظمهم بلاء محمد بن أبي عمير الأزدي البغدادي وهو في نفس الوقت من أعظمهم شأناً . وكان من أوثق الناس عند الخاصة والعامة ، وأنسكهم نسكاً ، وأورعهم وأعبدهم ، وحكي عن الجاحظ أنه قال : كان أوحد أهل زمانه في الأشياء كلها ، وقال أيضاً : وكان وجهاً من وجوه الرافضة ، حبس أيام الرشيد ليلي القضاء . وقيل بل ليدلّ على الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر (ع) ، وضرب على ذلك ، وكاد يقر لعظيم الألم ، فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول له : إتق اللـه يا محمد بن أبي عمير فصبر ففرّج اللـه عنه ، وروى الكشي أنه ضرب مائة وعشرين خشبة أيام هارون ، وتولى ضربه السندي بن شاهك ، وكان ذلك على التشيع ، وحبس فلم يفرج عنه ، حتى أدى من ماله واحداً وعشرين ألف درهم ، وروي أن المأمون حبسه حتى ولاه قضاء بعض البلاد ، وروى الشيخ المفيد في الاختصاص أنه حبس سبع عشرة سنة ، وفي مدة حبسه دفنت أخته كتبه فبقيت مدة أربع سنين ، فهلكت الكتب ، وقيل أنه تركها في غرفة فسال عليها المطر ، لذلك حدّث من حفظه ، ومما كان سلف له في أيدي الناس أدرك أيام الكاظم (ع) ولم يحدث عنه ، وأيام الرضا والجواد (ع) وحدّث عنهما ، ومات سنة 217 (7) .



    التسلل إلى النظام :

    ولعل أوضح شواهد القوة عند الحركة الرسالية في عصر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) هو حجم تسلل عناصرها في أجهزة النظام ، والذي يدل على مدى نفوذهم في مجمل المؤسسات الرسمية ، ولعلّ رأس النظام كان على علم وإن بصورة إجمالية بولاء رجاله لآل البيت ، لكنه كان عاجزاً عن الانقلاب عليهم لسبب أو لآخر ، وقبل أن نورد بعض القصص التاريخية لهذا التسلل ، يجدر أن نعلم أن متانة الشبكة التنظيمية التي كانت تتمتع بها الحركة الرسالية التي أوجدت هذا المدى الواسع من العناصر في مختلـف أجهزة النظام الحساسة ، لتعتبر نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه التنظيمات الرسالية في كل مكان .

    1 - يبدو أن بعض رؤساء المحافظات أو حسب تعبيرهم يومئذ ( الولاة ) كانوا منتمين إلى الحركة ، فمثلاً مدينة ( الري ) وهي طهران الحالية ، كانت من الحواضر العامة في ذلك اليوم ، ومع ذلك كان واليها واحداً من موالي أهل البيت ، كما تذكر الرواية التالية من كتاب قضاء حقوق المؤمنين لأبي علي بن طاهر الصوري بإسناده عن رجل من أهل الري قال : ولّي علينا بعض كتاب يحيى بن خالد ، وكان عليّ بقايا يطالبني بها ، وخفت من إلزامي إيّاها خروجاً عن نعمتي ، وقيل لي : أنه ينتحل هذا المذهب ، فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أحب ، فاجتمع رأيي على أني هربت إلى اللـه تعالى ، وحججت ولقيت مولاي الصابر - يعني موسى بن جعفر (ع) - فشكوت حالي إليه فأصحبني مكتوباً نسخته : بسم اللـه الرحمن الرحيم اعلم أن لله تحت عرشه ظِلاً لا يسكنه إلاّ من أسدى إلى أخيه معروفاً أو نفّس عنه كربة ، أو أدخل على قلبه سروراً ، وهذا أخوك والسلام .

    قال : فعدت من الحجّ إلى بلدي ، ومضيت إلى الرجل ليلاً ، واستأذنت عليه وقلت : رسول الصابر (ع) فخرج إليّ حافياً ماشياً ، ففتح لي بابه ، وقبّلني وضمني إليه ، وجعل يقبّل بين عيني ، ويكرّر ذلك كلما سألني عن رؤيته (ع) ، وكلما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر اللـه ، ثمّ أدخلني داره وصدّرنــي في مجلسه وجلس بين يدي ، فأخرجت إليه كتابه (ع) فقبّله قائماً وقرأه ثم استدعى بماله وثيابــه ، فقاسمني ديناراً ديناراً ، ودرهماً درهماً ، وثوباً ثوباً ، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته ، وفي كلّ شيء من ذلك يقول : يا أخي هل سررتك ؟ فأقول : أي واللـه ، وزدت على السرور ، ثم استدعى العمل فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة مما يتوجّه عليّ منه ، وودّعته ، وانصرفت عنه .

    فقلت : لا أقدر على مكافأة هذا الرّجل إلاّ بأن أحج في قابل وأدعو له وألقى الصّابر (ع) وأعرّفه فعله ، ففعلت ولقيت مولاي الصابر (ع) وجعلت أحدّثه ووجهه يتهلّل فرحاً ، فقلت : يا مولاي هل سرّك ذلك ؟ فقال : أي واللـه لقد سرني وسرّ أمير المؤمنين ، واللـه لقد سرّ جدي رسول اللـه (ص) ، ولقد سرّ اللـه تعالى (8) .

    2 - كان علي بن يقطين وزيراً للخليفة وكان يشرف على بلاد واسعة وكان من أقرب المستشارين لهارون الرشيد وفي الوقت ذاته كان من الموالين لأهل البيت (ع) (9) وسنذكر بإذن اللـه بعض الأحاديث التي تبين لنا مواقف علي بن يقطين والتي تكشف أن سياسة التقية أو العمل السري لم تكن سياسة مرحلية مؤقتة ، بل كانت بمثابة استراتيجية عمل بعيدة المدى ، فلعل أئمة الهدى رأوا أن تمكين رجالهم من مراكز الحكم بصورة أو بأخرى ، أفضل وسيلة لإصلاح أمر الأمة ، ولم يجدوا حاجة إلى التغيير السريع في قمة الهرم السلطوي ، وتحمل مسؤوليات الحكم بصورة مباشرة وحتى ولو لم يكن بناء الأمة الحضاري قد بلغ من النصج ما يحتمل نظاماً إلهيّاً ، كالذي كان أهل البيت (ع) يريدونه .

    وبتعبير آخر : إن استراتيجية ( التقاطع ) مع نظام الحكم وذلك بالسيطرة على مراكزه الهامة ، وشل قدرته من الداخل عن المعارضة ربما كانت الاستراتيجية المثلى لتلك الظروف .



    ألف : قصة الدرّاعة :

    في الوقت الذي كان علي بن يقطين مقرباً إلى الرشيد ، كان جواسيسه لا يفتأون يحيطون به وبسائر الوزراء ، إذ كان هاجس موالاة وزراءه للإمام الحق موسى بن جعفر (ع) يلاحق الرشيد ليل نهار ، إلاّ أن العلم الإلهي الذي كان لأئمة آل البيت (ع) منع الرشيد من إثبات أي شيء بحق علي بن يقطين ، كما أن انضباط علي بن يقطين وشدة التزامه بالأوامر القيادية فوّتت على الرشيد فرصاً كثيرة ، ومنها ما ذكرت قصة الدرّاعة التي نبيِّنها فيما يلي : -

    روى إبراهيم بن الحسن بن راشد ، عن ابن يقطين قال : ( كنت واقفاً عند هارون الرشيد إذ جاءته هدايا ملك الروم ، وكان فيها درّاعة ديباج سوداء منسوجة بالذهب لم أر أحسن منها ، فرآني أنظر إليها فوهبها لي ، وبعثتها إلى أبي إبراهيم (ع) ومضت عليها برهة تسعة أشهر وانصرفت يوماً من عند هارون بعد أن تغدّيت بين يديه ، فلمّا دخلت داري قام إليّ خادمي الذي يأخذ ثيابي بمنديل على يده وكتاب لطيف ختمه رطب ، فقال : أتاني بهذا رجل الساعة فقال : أوصله إلى مولاك ساعة يدخل ، ففضضتُ الكتاب وإذ به كتاب مولاي أبي إبراهيم (ع) وفيه : يا علي هذا وقت حاجتك إلى الدرّاعة وقد بعثت بها إليك ، فكشفت طرف المنديل عنها ورأيتها وعرفتها ، ودخل عليّ خادم هارون بغير إذن فقال : أجب أمير المؤمنين .

    قلت : أيًّ شيء حدث ؟ قال لا أدري .

    فركبت ودخلت عليه ، وعنده عمر بن بزيع واقفاً بين يديه فقال : ما فعلت بالدرّاعة الّتي وهبتك ، قلت : خلع أمير المؤمنين عليّ كثير من دراريع وغيرها فعن أيّها يسألني ؟ قال : درّاعة الديباج السوداء الرّومية المذهّبة ، فقلت : ما عسى أن أصنع بها ألبسها في أوقات وأصلّي فيها ركعات ، وقد كنت دعوت بها عند منصرفي من دار أمير المؤمنين السّاعة لألبسها ، فنظر إلى عمر بن بزيع فقال : قل يحُضرها ، فأرسلت خادمي جاء بها ، فلمّا رآها قال : يا عمر ما ينبغي أن تنقل على عليّ بعد هذا شيئاً ، قال : فأمر لي بخمسين ألف درهم حملت مع الدرّاعة إلى داري، قال عليّ بن يقطين: وكان الساّعي ابن عم لي فسوَّد اللـه وجهه وكذَّبه والحمد لله ) (10).



    باء : سرية الاتصالات :

    كيف كان يتم الاتصال بين الإمام وبين شيعته المتخفّين من أمثال علي بن يقطين ؟

    نحن لا نعرف مزيداً من التفاصيل حول طبيعة الاتصالات ، إلاّ أن الباحث باستطاعته أن يتعرف على القضايا من خلال بعض الأخبار المتناثرة ، فالخبير الزراعي يتعرف على طبيعة التربة والماء والهواء والبذر والسماد و . و .. من خلال ثمرة واحدة من شجرة التفاح مثلاً ، وهكذا المؤرخ بإمكانه أن يتعرف على المزيد من التفاصيل من خلال التفكر في أبعاد حادثة تاريخية تروى .

    وهكذا الحادثة الثانية تبين أبعاد الاتصالات السرية التي كانت تتم بين أئمة الهدى وشيعتهم .

    عن محمد بن مسعود ، عن الحسين بن شكيب ، عن بكر بن صالح ، عن إسماعيل بن عباد القصري، عن إسماعيل بن سلام وفلان بن حميد ، قالا : ( بعث إلينا علي بن يقطين فقال : اشتريا راحلتين ، وتجنبا الطريق - ودفع إلينا أموالاً وكتباً - حتى توصلا ما معكما من المال والكتب إلى أبي الحسن موسى (ع) ولا يعلم بكما أحد ، قال : فأتينا الكوفة واشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً ، وخرجنا نتجنب الطريق ، حتى إذا صرنا ببطن الرمة شددنا راحلتنا ، ووضعنا لها العلف ، وقعدنا نأكل ، فبينما نحن كذلك ، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري ، فلما قرب منَّا فإذا هو أبو الحسن موسى (ع) ، فقمنا وسلّمنا عليه ، ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا ، فأخرج من كمّه كتباً فناولنا إيّاها فقال : هذه جوابات كتبكم .

    قال : فقلنا : إنّ زادنا قد فني فلو أذنت لنا فدخلنا المدينة ، فزرنا رسول اللـه وتزوّدنا زاداً فقال : هاتا ما معكما من الزّاد ، فأخرجنا الزّاد إليه فقلّبه بيده فقال : هذا يبلّغكما إلى الكوفة ، وأما رسول اللـه (ص) فقد رأيتماه ، إني صليت معهم الفجر ، وإنّي أريد ان أصلي معهم الظهر ، انصرفا في حفظ اللـه ) (11) .



    جيم : التقية حتى في كيفية الوضوء:

    وفشلت محاولات الوشاة ورجال مباحث النظام في كشف حقيقة علي بن يقطين ، فقام الرشيد بنفسه بعملية التجسس عليه ، فكانت عاقبته الفشل أيضاً كما في الخبر التالي : -

    روى محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن الفضل قال : ( اختلفت الرواية بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء هو من الأصابع إلى الكعبين ؟ أم من الكعبين إلى الأصابع ؟ فكتب علي بن يقطين إلى أبي الحسن موسى (ع) أن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فإن رأيت أن تكتب إليّ بخطك ما يكون عملي عليه فعلت إن شاء اللـه ، فكتب إليه أبو الحسن (ع) : فهمتُ ما ذكرتَ من الاختلاف في الوضوء والذي آمرك به في ذلك فأن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلل شعرلحيتك وتمسح رأسك كله ، وتمسح ظاهر أذنيك . وباطنها ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ولا تخالف ذلك إلى غيره .

    فلما وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين تعجب بما رسم فيه ، ممّا أجمع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال وأنا ممتثل أمره ، وكان يعمل في وضوئه على هذا الحدّ ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن (ع) ، وسعي بعليّ بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل له : إنه رافضي مخالف لك .

    فقال الرشيد لبعض خاصّته : قد كثر عندي القول في عليّ بن يقطين والقذف له بخلافنا وميله إلى الرفض ولست أرى في خدمته لي تقصيراً ، وقد امتحنته مراراً فما ظَهَرْتُ منه على ما يُقذف به ، وأحبّ أن استبرئ أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز منّي .

    فقيل له : إنّ الرّافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخفّفه ولا ترى غسل الرّجلين فامتحنه يا أمير المؤمنين من حيث لا يعلم ، بالوقوف على وضوئه ، فقال : أجل إنّ هذا الوجه يظهر به أمره ، ثم تركه مدّة وناطه بشيء من الشغل في الدّار ، حتّى دخل وقت الصلاة ، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلمّا دخل وقت الصلاة وقف الرّشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى عليّ بن يقطين ، ولا يراه هو، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وخلّل شعر لحيته ، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح رأسه وأذنيه ، وغسل رجليه والرشيد ينظر إليه .

    فلما رأه وقد فعل ذلك ولم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه ، ثمّ ناداه : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن (ع) : ابتداءً من الآن يا علي بن يقطين فتوضّأ كما أمر اللـه ، واغسل وجهك مرة فريضة ، وأخرى إسباغاً ، واغسل يديك من المرفقين كذلك وامسح مقدم رأسك وظاهر قدميك بنداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك والسلام ) (12) .

    3 - كان المسيّب نائب رئيس شرطة النظام سندي بن شاهك ، وكان موكلاً بسجن الإمام (ع) ، وكان يوالي الإمام (ع) كما يظهر من بعض التواريخ ، وكان يتصل بالشيعة ويأمرهم بما يوصيه الإمام ، والواقع أن كثير ممن سجن الإمام عندهم قالوا بولايته لما شاهدوا منه من المعاجز ، فهذا بشّار مولى السندي بن شاهك يقول : ( كنت من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب (ع) ، فدعاني السندي بن شاهك يوماً فقال لي : يا بشار إنّي أريد أن أئتمنك على ما ائتمنني عليه هارون ، قلت : إذن لا أبقي فيه غاية ، فقال : هذا موسى بن جعفر قد دفعه إلّي وقد وكّلتك بحفظه ، فجعله في دار دون حرمه ووكّلني عليه ، فكنت أقفل عليه عدّة أقفال ، فإذا مضيت في حاجة وكّلت امرأتي بالباب فلا تفارقه حتّى أرجع .

    قال بشّار : فحوّل اللـه ما كان في قلبي من البغض حبّاً ، قال : فدعاني (ع) يوماً فقال : يا بشّار امضِ إلى سجن القنطرة فادع لي هند بن الحجاج وقل له : أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه ، فإنّه سينهرك ويصيح عليك ، فإذا فعل ذلك ، فقل له : أنا قد قلت لك وابلغت رسالته ، فإن شئت فافعل ما أمرني ، وإن شئت فلا تفعل ، واتركه وانصرف ، قال : ففعلت ما أمرني وأقفلت الأبواب كما كنت أقفل وأقعدت امرأتي على الباب وقلت لها : لا تبرحي حتّى آتيك .

    وقصدت إلى سجن القنطرة فدخلت إلى هند بن الحجّاج ، فقلت : أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه ، قال : فصاح عليّ وانتهرني فقلت له : أنا قد أبلغتك وقلت لك ، فإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ، وانصرفت وتركته وجئت إلى أبي الحسن (ع) فوجدت امرأتي قاعدة على الباب والأبواب مغلقة ، فلم أزل أفتح واحداً منها حتى انتهيت إليه فوجدته وأعلمته الخبر ، فقال : نعم قد جائني وانصرف ، فخرجت إلى امرأتي فقلت لها : جاء أحد بعدي فدخل هذا الباب ؟ فقالت : لا واللـه ما فارقت الباب ولا فتحت الأقفال حتى جئت )(13).

    ـــــــــــــــــــــــــ

    (1) بحار الأنوار : ( ج 48 ، ص 291 ) .

    (2) مقاتل الطالبيين : ( ص 505) .

    (3) من نواحي رامهرمز في خوزستان إيران .

    (4) موسوعة البحار : ( ج48 ، ص 260 ) .

    (5) المصدر : ( ص 226 - 227 ) .

    (6) المصدر : ( ص 176 ، 178 ) .

    (7) المصدر : ( ص 179 ) الهامش عن شرح مشيخة الفقيه : ( ص 56 - 57 ) .

    (8) المصدر : ( ص 174 ) .

    (9) علي بن يقطين بن موسى البغدادي مسكناً ، والكوفي أصلاً ، مولى بني أسد يكنى أبا الحسن ، من وجوه هذه الطائفة ، جليل القدر ، وقد ضمن له الإمام الكاظم (ع) الجنة وأن لا تمسه النار ، وفي الكشي أحاديث دلت على عظم شانه وجلالة قدره ، وأنه كان يحمل إلى الإمام الكاظم (ع) أموالاً طائلة ، فربما حمل مائة ألف إلى ثلاثمائة ألف ، وكان علي يبعث في كل سنة من يحج عنه حتى أحصى له في بعض السنين مائة وخمسين أو ثلاثمائة ملبي ، وكان يعطي بعضهم عشرة آلاف وبعضهم عشرين ألف ، مثل الكاهلي وعبد الرحمن بن الحجاج وغيرهما ، ويعطي أدناهم ألف درهم ، له كتب رواها عنه أبنه الحسن وأحمد بن هلال مات سنة 182 في أيام حياة أبي الحسن الكاظم ببغداد ، وأبو الحسن في سجن هارون وقد بقى فيه أربع سنين .

    " باقتضاب عن شرح مشيخة الفقيه : ( ص47 ) عنه هامش كتاب البحار : ( ص 178 ، ج 48 ) " .

    (10) المصدر : ( ص 59 - 60 ) .

    (11) المصدر : ( ص 35) .

    ويبدو ان الامام امرهم بالانصراف من زيارة النبي (ص) والاكتفاء بزيارة خليفته زيارة مباشرة ، وذلك حين قال : اما رسول اللـه فقد رأيتماه .

    (12) المصدر : ( ص 38 - 39 ) .

    (13) المصدر : ( ص 241) .
    الماستر
    الماستر
    الاداريون
    الاداريون


    رسالة sms رسالة sms : مرحبا بك
    زائر


    عدد المساهمات : 4802
    تاريخ التسجيل : 04/10/2009
    العمر : 41
    الموقعhttps://adeladel.ahlamontada.com

    حصري رد: فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام

    مُساهمة من طرف الماستر الإثنين 27 يونيو 2011, 6:10 am


    الفصل الثالث : معاجـز الإمـام وعلمــه

    معاجز الإمام الكاظم :

    هناك فرق كبير بين فكرة الغلو المرفوضة عند المسلمين بشدة ، وبين الإعتقاد بكرامة أولياء اللـه ، واستجابة اللـه دعائهم ، ونظرهم بنور اللـه إلى الحقائق .

    ذلك أن فكرة الغلو تسمو بالشخص إلى درجة الألوهية وترى أن الرب سبحانه وتعالى يحل في عباده ، حتى يصبح العبد هو الرب بروحه ، وتكون قدراته آنئذٍ ذاتية .

    بينما الإعتقاد بالإعجاز لدى أولياء اللـه يعكس التوحيد الخالص حيث يرفض أي تحول ذاتي في شخص النبي أو الإمام أو الولي ، إنما يعني تفضيل اللـه لعباده المخلصين ، وإكرامهم بالعلم أو القدرة .

    وفي الوقت الذي نجد الآيات القرآنية تقدس اللـه وتسبّحه وتذكرنا باستحالة حلوله في شيء أو شخص وتندد بعقائد الشرك ، في ذات الوقت تذْكر لنا معاجز الأنبياء (ع) التي دلّت على كرامتهم عند اللـه ، حيث أجرى اللـه على أيديهم تلك المعاجز فيقول اللـه سبحانه في شأن عيسى ابن مريم (ع) :

    { وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِاَيَةٍ مِن رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَاَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللـه وَاُبْرِئُ اْلأَكْمَهَ وَاْلأبْرَصَ وَاُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللـه وَاُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (آل عمران/49)

    إن تكرار كلمة ( بإذن اللـه ) يدلل على أن تلك المعاجز لا تعني حلولاً إلهياً في شخص عيسى ليجعله ابناً لله سبحانه وتعالى عما يقوله المشركون ، بل على أن اللـه يهب لعبده ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء .

    وهكذا كانت عقيدة المسلمين في الأئمة (ع) والأولياء بأن اللـه قد أكرمهم بالعلم والقدرة ، وهذا من صميم عقيدة التوحيد ، أوليس اللـه بقادر على أن يكفي عبده وينصره ويطلعه على غيبه إذا ارتضاه ؟ ولِمَ لا يفعل الرب بعبده المطيع له المخلص في العبادة مثل ذلك ؟ أوليس اللـه يحب التوّابين ويحب المتطّهرين ويحب المتوكّلين ، ويحب من يطيعه ، ويجزي من يعبده ، ويجزي المتصدقين ، ويجزي المحسنين ، ويكرم المتقين ، ويسلّم ويصلي على عباده الصابرين ؟ كما نقرأ في أكثر سور القرآن الكريم.

    إن من لا يعتقد بالتأييد الإلهي لعباده الصالحين وفي طليعتهم الأئمة المعصومين (ع) ، ويثير الشكوك حول معاجزهم ، يكاد يكفر بروح القرآن وباطنه ومحتواه وأعظم معانيه .

    إن لبّ رسالات اللـه هو الإعتقاد بأن اللـه مهيمن على عرش القدرة ، ويفعل ما يشاء وأنه لا يفعل إلاّ بحكمة بالغة ، وخلاصة الحكمة جزاء من أحسن وعقاب من أساء ، فإذا كـان سواء عنده من أحسن ومن أساء وكان لا ينصر عباده المؤمنين ولا يخذل الكفار والمنافقين ، فما هي فائدة الإيمان بقدرته وحكمته و. و ..

    وهكذا كان الإمام موسى بن جعفر حليف القرآن ، وأعبد الناس للرب في عصره ، وأعظم المطيعين للخالق ، كان له من المعاجز والكرامات ما اعترف بها المسلمون جميعاً ، ولا يسعنا أن نذكر فيما يلي إلاّ قليلاً منها (1):

    1 - لقد أنقذ اللـه سبحانه عبده الصالح موسى بن جعفر (ع) من طغاة عصره بفضل توكله عليه وتبتله إليه ، وكذلك ينجي اللـه المؤمنين .

    جاء في الحديث عن عبيد اللـه بن صالح قال : حدثني حاجب الفضل بن الربيع عن الفضل بن ربيع قال : كنت ذات ليلة في فراشي مع بعض جواريّ فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة فراعني ذلك فقالت الجارية : لعل هذا من الريح ، فلم يمض إلاّ يسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح ، وإذا مسرور الكبير قد دخل عليّ فقال لي : أجب الأمير ، ولم يسلّم عليّ .

    فيئست من نفسي وقلت : هذا مسرور ، دخل إليّ بلا إذن ولم يسلم ، ما هو إلاّ القتل ، وكنت جنباً فلم أجسر أن أسأله إنظاري حتى أغتسل ، فقالت لي الجارية : لما رأت تحيّري وتبلّدي : ثق باللـه عزّ وجلّ وانهض ، فنهضت ، ولبست ثيابي ، وخرجت معه حتى أتيت الدار ، فسلمت على أمير المؤمنين وهو في مرقده فرد عليَّ السلام فسقطت فقال : تداخلك رعب .؟ قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، فتركني ساعة حتى سكنت ثم قال لي : صر إلى حبسنا فأخرج موسى بن جعفر بن محمد وادفع إليه ثلاثين ألف درهم ، واخلع عليه خمس خلع ، واحمله على ثلاث مراكب ، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلى أيّ بلد أراد وأحب .

    فقلت : يا أمير المؤمنين تأمر بإطلاق موسى بن جعفر ؟ قال : نعم فكرّرت ذلك عليه ثلاث مرات ، فقال لي : نعم ويلك أتريد ان أنكث العهد ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين وما العهد ؟ قال : بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسود ما رأيت من السودان أعظم منه فقعد على صدري وقبض

    على حلقي وقال لي : حبست موسى بن جعفر ظالماً له ؟ فقلت : فأنا أطلقه وأهب له ، وأخلع عليه ، فأخذ عليّ عهد اللـه عزّ وجلّ وميثاقه ، وقام عن صدري ، وقد كادت نفسي تخرج .

    فخرجت من عنده ووافيت موسى بن جعفر (ع) وهو في حبسه ، فرأيته قائماّ يصلي فجلست حتى سلم ، ثم أبلغته سلام أمير المؤمنين ، وأعلمته بالذي أمرني به في أمره ، وأني قد أحضرت ما وصله به ، قال : إن كنت أمرت بشيء غير هذا فافعله ؟ فقلت : لا وحق جدّك رسول اللـه ما أمرت إلاّ بهذا ، فقال : لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذ كانت فيه حقوق الأمة فقلت : ناشدتك باللـه أن لا ترده فيغتاظ ، فقال : إعمل به ما أحببت ، وأخذت بيده (ع) وأخرجته من السجن .

    ثم قلت له : يابن رسول اللـه أخبرني بالسبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل ، فقد وجب حقي عليك لبشارتي إياك ، ولما أجراه اللـه عزّ وجلّ علي يدي من هذا الأمر ، فقال (ع) : رأيت النبي (ص) ليلة الأربعاء في النوم فقال لي : يا موسى أنت محبوس مظلوم ؟ فقلت : نعم يا رسول اللـه محبوس مظلوم ، فكرر عليً ذلك ثلاثاً ثم قال :

    { وإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } (الانبياءِ/111) أصبح غداً صائماً وأتبعه بصيام الخميس والجمعة ، فإذا كان وقت الإفطار فصلّ اثنتي عشر ركعة تقرأ في كلّ ركعة الحمد واثنتي عشرة مرة قل هو اللـه أحد ، فإذا صلّيت منها أربع ركعات فاسجد ثم قل : يا سابق الفوت يا سامع كلّ صوت يا محيي العظام وهي رميم بعد الموت ، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلي على محمد عبدك ورسولك وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وأن تعجل لي الفرج مما أنا فيه “ ففعلت فكان الذي رأيت (2).

    2 - وقد دعا سيدنا الكاظم (ع) لإنقاذ بعض المؤمنين من شيعته من ظلم الطاغية ن فاستجاب اللـه دعاءه حيث جاء في التاريخ عن صالح بن واقد الطبري قال : دخلت على موسى بن جعفر فقال : يا صالح إنه يدعوك الطاغية يعني هارون فيحبسك في محبسه ويسألك عني فقل إني لا أعرفه ، فإذا صرت إلى محبسه فقل من أردت أن تخرجه فأخرجه بإذن اللـه تعالى ، فدعاني هارون من طبرستان فقال : ما فعل موسى بن جعفر فقد بلغني أنه كان عندك ؟ فقلت : ما يدريني من موسى بن جعفر ؟ أنت يا أمير المؤمنين أعرف به وبمكانه ، فقال : اذهبوا به إلى الحبس ، فواللـه إني لفي بعض اللّيالي قاعد وأهل الحبس نيام إذ أنا به يقول : يا صالح ، قلت : لبيك قال : صرت إلى ههنا ؟ فقلت : نعم يا سيدي ، قال: قم فاخرج واتبعني ، فقمت وخرجت ، فلما صرنا إلى بعض الطريق قال : صالح يا رسول اللـه محبوس مظلوم فكرر عليّ ذلك ثلاثاً ، ثم قال :

    السلطان سلطاننا كرامة من اللـه أعطاناها ، قلت : يا سيدي فأين أحتجز من هذا الطاغية ؟ قال : عليك ببلادك فارجع إليها فإنه لن يصل إليك ، قال صالح : فرجعت إلى طبرستان ، فواللـه ما سأل ولا أدري أحبسني أم لا (3).

    3 - وكان يؤدب شيعته على التقوى ، ويعطيه الرب نوراً يعلم به خباياهم ، فقد جاء في الحديث عن عبد اللـه بن القاسم بن الحارث البطل ، عن مرازم قال : ( دخلت المدينة فرأيت جارية في الدار التي نزلتها فعجبتني فأردت أن أتمتع منها فأبت أن تزوجني نفسها ، فجئت بعد العتمة فقرعت الباب فكانت هي التي فتحت لي ، فوضعت يدي على صدرها فبادرتني حتى دخلت ، فلما أصبحت دخلت على أبي الحسن (ع) فقال : يا مرازم ليس من شيعتنا من خلا ثم لم يرع قلبه ) (4).

    4 - وينتفع بعلمه الإلهي في سبيل تربية شيعته على الانضباط ، باعتباره ضرورة قصوى في سائر حقول الحياة ، وبالذات حقل الجهاد ، جاء في الآثار :

    عن محمد بن الحسين بن علي عن حسان الواسطي ، عن موسى بن بكر قال : ( دفع إليّ أبو الحسن الأول (ع) رقعة فيها حوائج وقال لي : إعمل بما فيها ، فوضعتها تحت المصلّى ، وتوانيت عنها ، فمررت فإذا الرقعة في يده ، فسألني عن الرقعة فقلت : في البيت ، فقال : يا موسى إذا أمرتك بالشيء فاعمله وإلاّ غضبت عليك (5) .

    5 - وربما اقتضى الأمر الإعجاز بهدف تأديب الشيعة على التواضع للحق ، والإبتعاد عن الكبر والتعالي للارتفاع بهم إلى مستوى ( حزب اللـه ) الذين لا يتمايزون عن بعضهم بما يملكون من مال أو علم أو منصب ، دعنا نقرأ معاً قصة علي بن يقطين ، وهو وزير في سلطان الطغاة ، وبحكم منصبه ربما أخذه الغرور وتعالى على سائر المؤمنين ، لننظر كيف يؤدبه الإمام ، ويستخدم قدرته الإلهية لتربية روح التقوى فيه .

    عن محمد بن علي الصوفي قال : ( استأذن إبراهيم الجمّال رضي اللـه عنه على أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه ، فحج علي بن يقطين في تلك السَّنة فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفر فحجبه ، فرآه ثاني يومه فقال علي بن يقطين : سيدي ما ذنبي ؟ فقال : حجبتك لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمال ، وقد أبى اللـه أن يشكر سعيك أو يغفر لك حجب إبراهيم الجمّال ، فقلت : يا سيدي ومولاي من لي بإبراهيم الجمّال في هذا الوقت وأنا بالمدينة وهو بالكوفة ؟ فقال : إذا كان الليل فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك واركب نجيباً هناك مسرجاً ، قال : فوافى البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمّال بالكوفة ، فقرع الباب وقال : أنا علي بن يقطين.

    فقال إبراهيم الجمّال من داخل الدار : وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي ؟! فقال علي بن يقطين : يا هذا إن أمري عظيم ، وآلى عليه أن يأذن له ، فلما دخل قال : يا إبراهيم إن المولى (ع) أبى أن يقبلني أو تغفر لي ، فقال : يغفر اللـه لك فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمّال أن يطأ خده فامتنع ابراهيم من ذلك ، فآلى عليه ثانياً ففعل ، فلم يزل ابراهيم يطأ خده ، وعلي بن يقطين يقول : اللـهم اشهد ، ثم انصرف وركب النجيب وأناخه من ليلته بباب المولى موسى بن جعفر (ع) بالمدينة ، فأذن له ودخل عليه فقبله ) (6) .

    6 - باعتباره قائد المسلمين ، وخليفة رسول اللـه (ص) الذي تحلّى بمكارم الخلق المحمدي ، فإنه كان رحيماً بالمؤمنين عزيزاً عليه ما عندتم .

    وكثيراً ما كان ينظر بنور اللـه فيرى الضر الّذي قد يلحق بهم فيبادر برفعه عنهم بطريقة أو باخرى حتى ولو كان من النوع الفردي أو الجزئي ، دعنا نقرأ معاً القصة التالية :

    عن إبراهيم بن عبد الحميد قال : ( كتب إليّ أبو الحسن (ع) - قال عثمان بن عيسى وكنت حاضراً بالمدينة - : تحوّل عن منزلك ، فاغتمَّ بذلك ، وكان منزله منزلاً وسطاً بين المسجد والسوق ، فلم يتحوّل ، فعاد إليه الرسول : تحوّل عن منزلك ، فبقي ، ثم عاد إليه الثالثة : تحوّل عن منزلك ، فذهب وطلب منزلاً وكنت في المسجد ، ولم يجيء إلى المسجد إلاّ عتمة فقلت له : ما خلّفك ؟ فقال : ما تدري ما أصابني اليوم ؟ قلت : لا ، قال : ذهبت أستقي الماء من البر لأتوضأ فخرج الدلو مملوءاً خرءاً وقد عجّنا خبزنا بذلك الماء ، فطرحنا خبزنا وغسلنا ثيابنا ، فشغلني عن المجيء ، ونقلت متاعي إلى البيت الذي أكتريته ، فليس بالمنزل إلاّ الجارية ، الساعة أنصرف وآخذ بيدها ، فقلت : بارك اللـه لك ، ثم افترقنا ، فلمّا كان سحراً خرجنا إلى المسجد فقال : ما ترون ما حدث في هذه الليلة ؟ قلت : لا “ قال : سقط واللـه منزلي ، السفلى والعليا ) (7) .

    هكذا قدم الإمام نصيحته لشيعته في مسألة حياتية جزئية ولكنها هامة بالنسبة إلى الفرد المؤمن صاحب المسألة ، وفي واقعة أخرى نجد الإمام ينصح الفرد في مسألة تجارية تبدو هي الأخرى جزئية ولكنها تكشف عن حقيقة الإهتمام بامور المسلمين ، والواقعة رويت هكذا :

    عن الحسن بن علي بن النعمان ، عن عثمان بن عيسى قال : ( أبو الحسن (ع) لإبراهيم بن عبد الحميــد ، ولقيه سحراً وإبراهيم ذاهب إلى قبا ، وأبو الحسن (ع) داخل إلى المدينة فقال : يا إبراهيـم فقلــت : لبيك ، قال : إلى أين ؟ قلت : إلى قبا ، فقال : في أي شيء ؟ فقلت : إنَّا كنا نشتري في كل سنة هذا التمر فأردت أن آتي رجلا من الأنصار فأشتري منه من الثمار ، فقال : وقد أمنتم الجراد ، ثم دخل ومضيت أنا فأخبرت أبا العز ، فقال : لا واللـه لا أشتري العام نخلة ، فما مرت بنا خامسة ، حتى بعث اللـه جراداً فأكل عامة مافي النخل ) (8) .



    علـم الإمامـة :

    إن قاعدة الرسالات الإلهية قائمة على أساس الإيمان بالغيب ، وأبرز مظاهر الغيب هو العلم به من قبل عباد اللـه المقربين ، أوليس ذات الكتاب الذي يوحى إلى النبي - أيّ نبي - ويؤمر الناس باتباعه من الغيب ؟

    كيف علّم اللـه رسوله النبي الأمي كل تلك الرسالة العظيمة وذلك الكتاب الكريم ، الذي تحدّى العالمين أن يأتوا بمثل بعض سوره أو آياته .

    إننا نقرأ في الكتاب حجة عيسى ابن مريم على قومه أن ينبئهم بما يدّخرون في بيوتهم .

    وهكذا يكون علم الإمام الإلهي الذي تجاوز حدود علم الناس دليلاً على أنه مؤيد باللـه ، وأنه الإمام ، والحجة على الناس أجمعين .

    كيف يكون هذا العلم ؟ هل يكون عبر توارث الحديث عن رسول اللـه عن جبرائيل عن اللـه ، أم عبر نكت في القلوب ونقرٍ في الأسماع ، أو عبر عمود من نور ينظر إليه الإمام متى شاء اللـه أن يعلم شيئاً فيعلم ، أم بنزول الروح - وهو أعظم من الملائكة - عليه ليلة القدر ؟!

    الصحيح أن كل ذلك وربما غير ذلك مما لا نعلم من سبل العلم الإلهي يكون طريق علم الإمام ، ولم نكلف نحن بمعرفة تفاصيل ذلك ، إنما يكفينا أن الإمام يعلم - بإذن اللـه - بما يجهله الناس ، وبذلك يفضّل عليهم ، ولا بدّ أن يكون مطاعاً فيهم بإذن اللـه .

    جاء في حديث شريف عن أبي عبد اللـه الصادق (ع) :

    “ فال قلت : أخبرني عن علم عالمكم ؟ قال : وراثة من رسول اللـه (ص) ومن علي بن أبي طالب (ع) ، فقلت : إنَّا نتحدث أنه يقذف في قلبه أو ينكث في إذنه ، فقال : أو ذاك “ (9).

    أي لعله يكون ذلك .

    والإمام الكاظم نطق بعلم الرسالة في كافة الحقول ، ويكفيك وصيته لهشام التي تعتبر خلاصة حكم الأنبياء ، وزبدة رؤى الرسالات ، وما نذكره فيما يلي رشح من بحر علمه الزاخر :

    1 - روي أن إسحاق بن عمار قال : ( لما حبس هارون أبا الحسن موسى (ع) دخل عليه أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، صاحبا أبي حنيفة فقال أحدهما للآخر : نحن على أحد الأمرين ، إما أن نساويه أو نشكله ، فجلسا بين يديه ، فجاء رجل كان موكلاً من قبل السندي بن شاهك ، فقال : إن نوبتي قد انقضت وأنــا على الإنصراف فإن كان لك حاجة أمرتني حتى آتيك بها في الوقت الذي تخلفني النوبة ؟ فقـال : مالي حاجة ، فلما أن خرج قال لأبي يوسف :

    ( ما أعجب هذا يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع وهو ميت في هذه الليلة ) .

    فقاما فقال أحدهما للآخر : إنا جئنا لنسأله عن الفرض والسنَّة وهو الآن جاء بشيء آخر كأنه من علم الغيب .

    ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا : إذهب حتى تلزمه وتنظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد ، فمضى الرجل فنام في مسجد في باب داره ، فلما أصبح سمع الواعية ورأى الناس يدخلون داره فقال : ما هذا ؟ قالوا قد مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة ، فانصرف إلى أبي يوسف ومحمد واخبرهما الخبر ، فأتيا أبا الحسن (ع) فقالا : قد علمنا أنك أدركت العلم في الحلال والحرام فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت في هذه الليلة ؟ قال :

    ( من الباب الذي أخبر بعلمه رسول اللـه (ص) علي بن أبي طالب (ع) ) . فلمّا ردّ عليهما هذا بقيا لا يحيران جواباً ) (10) .

    هكذا أوتي الإمام موسى بن جعفر (ع) علم المنايا كما أوتي ذلك من قبل أنبياء اللـه وأوليائه الكرام .

    2 - وكذلك أوتي علم منطق الناس بإذن اللـه تعالى ، فقد جاء في الحديث عن ابن أبي حمزة قال : (كنت عند أبي الحسن موسى (ع) إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اشتروا له ، فتكلم غلام منهم فكان جميلاً بكلام فأجابه موسى (ع) بلغته ، فتعجب الغلام وتعجبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم ، فقال له موسى : إني لأدفع إليك مالاً فادفع إلى كل منهم ثلاثين درهماً ، فخرجوا وبعضهم يقول لبعض : إنه أفصح منا بلغاتنا ، وهذه نعمة من اللـه علينا .

    قال علي بن أبي حمزة : فلما خرجوا قلت : يابن رسول اللـه رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ؟! قال : نعم ، قال : وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم ؟ قال : نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً ، وأن يعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً ، لأنه لما تكلم كان أعلمهم فإنه من أبناء ملوكهم ، فجعلته عليهم وأوصيته بما يحتاجون إليه ، وهو مع هذا غلام صدق ، ثم قال : لعلك عجبت من كلامي إياهم بالحبشة ؟ قلت : إي واللـه قال : ( لا تعجب فما خفي عليك من امري أعجب وأعجب ، وما الذي سمعته مني إلاّ كطائر أخذ بمنقاره من البحر قطرة ، أفترى هذا الذي يأخذه بمنقاره ينقص من البحر ؟! والإمام بمنزلة البحر لا ينفذ ما عنده وعجائبه أكثر من عجائب البحر ) (11) .

    3 - وجاء في حديث آخر يرويه علي بن حمزة قال : ( أرسلني أبو الحسن (ع) إلى رجل قدّامه طبق يبيع بفلس فلس وقال : أعطه هذه الثمانية عشر درهماً وقل له : يقول لك أبو الحسن : انتفع بهذه الدراهم فإنهــا تكفيك حتى تموت ، فلما أعطيته بكى ، فقلت : وما يبكيك ؟ قال : ولم لا أبكي وقد نعيت إليّ نفسـي ، فقلت : وما عند اللـه خير مما أنت فيه ، فسكت وقال : من أنت يا عبد اللـه ؟ فقلت علي بن أبي حمزة ، قال : واللـه لهكذا قال لي سيدي ومولاي أني باعث إليك مع علي بن أبي حمزة برسالتي ، قال علي : فلبثت نحواً من عشرين ليلة ثم أتيت إليه وهو مريض فقلت : أوصني بما أحببت أنفذه من مالي ، قال : إذا أنا متّ فزوج ابنتي من رجل دين ، ثم بع داري وادفع ثمنها إلى أبي الحسن ، واشهد لي بالغسل والدفن والصلاة . قال : فلما دفنته زوّجت ابنته من رجل مؤمن وبعت داره وأتيت بثمنها إلى أبي الحسن (ع) فزكاه وترحم عليه وقال : رد هذه الدراهم فادفعها إلى ابنته ) (12) .

    4 - وإذا كان علم الأئمة من اللـه ، فإن اللـه سبحانه لا يعجزه شيء في السماوات والأرض ، وقد تقضي حكمته أن يجعل علمه عند صبي في المهد ، كما فعل بالمسيح عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا (ع) ، وهكــذا أظهر قدرته في شخص الإمام الكاظم (ع) حيث جاء في حديث شريف مأثور عن عيسى شلقان قال : ( دخلت على أبي عبد اللـه (ع) وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطاب فقال لي مبتدئاً من قبل أن أجلس : ما منعك أن تلقى ابني موسى فتسأله عن جميع ما تريد ؟ قال عيسى : فذهبت إلى العبد الصالح (ع) وهو قاعد في الكتّاب وعلى شفتيه أثر المداد فقال لي مبتدئاً : يا عيسى إن اللـه أخذ ميثاق النبيين على النبوة فلم يتحوّلوا عنها ، وأخذ ميثاق الوصيين على الوصية فلم يتحولوا عنها أبداً ، وإن قوماً إيمانهم عارية ، وإن أبا الخطاب ممن أعير الإيمان فسلبه اللـه إياه ، فضممته إليّ وقبلت ما بين عينيه وقلـت : ذرية بعضها من بعض .

    ثم رجعت إلى الصادق (ع) فقال : ما صنعت ؟ قلت : أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن جميع ما اردت ، فعلمت عند ذلك أنه صاحب هذا الأمر ، فقال : يا عيسى إن ابني هذا الذي رأيت لو سألته عما بين دفتي المصحف ، لأجابك فيه بعلم ثم اخرجه ذلك اليوم من الكتاب ) (13).

    5 - حينما يسقط الحجاب بين الرب وعبده ، وحينما يبلغ الصفاء الروحي والمعرفة الإلهية القمة ، فإن الدنيا تاتي مطيعة للعبد الصالح ، كما قال اللـه في الحديث القدسي :

    “ عبدي ، أطعني تكن مِثلي ( أو مَثَلي ) أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون “ .

    هكذا يروي لنا شقيق البلخي جانباً من الكرامة التي خصها اللـه تعالى لإمامنا السابع موسى بن جعفر (ع) فيقول : ( خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة ، في رجليه نعلان وقد جلس منفرداً ، فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس في طريقهم ، واللـه لأمضين إليه ولأوبخنَّه ، فدنوت فلما رآني مقبلاً قال : يا شقيق :

    { اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (الحُجُرات/12)

    ثم تركني ومضى ، فقلت في نفسي إن هذا الأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق بإسمي ، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنَّه ولأسألنه أن يحللني ، فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني ، فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلّ وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه .

    فصـبرت حتى جلس ، وأقبلت نحوه فلما رآني مقبلاً قال : يا شقيق اتلُ : { وإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (طه/82)

    ثم تركني ومضى ، فقلت : إن هذا الفتى لّمِنَ الأبدال ، لقد تكلّم على سرّي مرتيــن ، فلما نزلنا زُبالـة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركــوة يريد أن يسقي ماءً ، فسقطت الركوة من يده في البئر وانا أنظر إليه ، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :

    أنــت ربـي إذ ظمئت إلـى الماء * وقوتـي إذا أردت الطعـــــــــامـا

    “ اللـهم سيدي مالي غيرها فلا تعدمنيها “ .

    قال شقيق : فواللـه لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها فمد يده وأخذ الركوة وملأها ماءً ، فتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلّمت عليه ، فرد عليّ السلام فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم اللـه عليك ، فقال : يا شقيق لم تزل نعمة اللـه علينا ظاهرة وباطنة فاحسن ظنك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر ، فواللـه ما شربت ألذّ منه ولا أطيب ريحاً فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً .

    ثم لم أره حتى دخلنا مكة ، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الشراب في نصف الليل قائما يصلي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبّح ، ثم قام فصلّى الغداة وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج فتبعته ، وإذا له غاشية وموال وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته بقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيد ، ولقد نظم بعض المتقدّمـين واقعة شقيق معه في أبيات طويلة اقتصرت على ذكر بعضها فقال :

    ســـل شقـــيــق البلخــــي عـــنه ومــــــا * عـا يــن منـــه ومـــا الــــذي كــان أبصـرْ

    قــــال لمـــا حجـــجــت عــاينـت شخصــاً * شــاحـــب اللون ناحــــل الجـــسم أســمرْ

    ســــائـراً وحـــــده ولـــيـس لــــــــه زا د * فـــمــــــــازلـــــت دائـــمـــــــا اتـــفـــكــــرْ

    وتـــــوهـــمـت أنـــــه يـــسـأل النــــــاسّ * ولـــــم أدر أنـــه الحــــــج الأكــــــبــــــــر

    ثـــم عـــايـــنـــتــــــه ونـــحـــن نــــــزول * دون فيـدٍ عَـــلــى الكثـــيـــب الأحـــمــــــر

    يضــع الـــرمل فـي الإنـــاء ويـشـــربـــــ * ــهْ فـــنــــاديتــه وعـــقـــلــــي مـــحـــيـــر

    أسقـنــي شربـــــة فــــنــاولـــنــي مـــنــــ * ـهُ فـــعــــايـــنـــتـــــه ســويـــقـاً وسكّـــــر

    فســألت الحجـــيج مــــن يــــــــك هــذا ؟ * قيل هـذا الإمـام موسى بــن جعفـر(14)

    ــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) العلاّمة المجلسي خصص في موسوعته بحار الأنوار الجزء 48 جزءاً مفصلاً ( من ص 29 - 100 ) حول بعض معاجزه .

    (2) المصدر : ( ص 213 - 215 ) .

    (3) المصدر : ( ص 66) .

    (4) المصدر : ( ص 45) .

    (5) المصدر : ( ص 44) .

    (6) المصدر / ( ص 85 ) .

    (7) المصدر : ( ص 45 - 46 ) .

    (8) المصدر : ( ص 46 - الرقم 30 ) .

    (9) بحار الانوار : ( ج 2 ، ص 174) .

    (10) المصدر : ( ص 64 ، 65) .

    (11) المصدر : ( ص 70 ) ( 93/ ) .

    (12) المصدر : ( ص 76) .

    (13) المصدر : ( ص 58 ) .

    (14) المصدر : ( ص 80 - 82 ) .



    الفصل الرابع : خلقـه وفضائلـه



    خلقه وفضائله :

    إنما جعل اللـه أنبياءه وحملة رسالاته من البشر ، لكي تتم الحجة على الناس فيقتدوا بهم ، ولو كانوا ملائكة لكان الناس يقولون مالنا والملائكة ، أوليسوا من جنس آخر ؟

    بلى وإن الإنسان مفطور على حب الفضيلة ، وإذا تجسدت في شخص ازداد لها حباً ، ودفعته دواعي الخير في ذاته إلى اتباعه ، والسعي لكي يكون مثله .

    إنك لو ألقيت على شخص محاضرة مفصّلة عن فضيلة الإحسان فإنه لا يندفع بقدر ما لو حكيت له قصة رجل محسن .

    إن مكارم أخلاق الأئمة من أهل البيت (ع) أفضل منهاج تربوي ، وإنهم - بحق - أسمى قدوات الخير والفضيلة ، وإن سيرة حياتهم الحافلة بالمكرمات أقوى حجة على سلامة نهجهم في التربية وسلامة خطتهم في الحياة ، وإن أفكارهم التي تناقلتها الرواة هي التفسير الصحيح للقرآن الحق ، أوليسوا من البشر ؟ إذاً كيف بلغوا هذا الشأن من العظمة ، ألم يبلغوه بتطبيق هذه الأفكار التي رويت عنهم ؟ بلى ، أولسنا نحن أيضاً نريد العظمة ؟ إذاً دعنا نقرأ تلك الأفكار ونتفاعل معها .

    والواقع أن التاريخ لم يحفظ لنا من سيرة الأئمة إلاّ قليلاً ، لأنهم كانوا محاصرين إعلامياً من قبل سلطات الجور حتى أن رواية فضيلة لهم كانت تكلِّف في بعض العصور حياة الراوي ، وكان على الشاعر دعبل أن يحمل على كتفه خشبة إعدامه لمدة ربع قرن ، ويهيم على وجهه في القفار لأنه كان يمدح أهل البيت . ومع ذلك فإن ما تبقّى من فضائلهم يعتبر دورة تربوية كاملة لمكارم الأخلاق .

    ولأن عاش إمامنا الكاظم (ع) في أشد أيام الصراع وأصعب أوقات التقيّة وسرّية العمل ، فإن اختراق قصصه لحصار السلطات يعتبر معجزة ، وعلينا أن نستدل بما وصلتنا من قصصه وهي قليلة على ما لم تصل إلينا وهي الأكثر .



    أ - عبادته وزهده :

    من أبرز سمات القيادات الرسالية الزهد ، والتقشف والإجتهاد في التبتل إلى اللـه تعالى ، وقد كان عصر الإمام الكاظم (ع) معروفاً بالعصر الذهبي ، وكانت بيوت السلطة العباسية تفيض بالثروات الطائلة، وتشهد حفلات المجون ، كالتي نقرأ بعضها في قصص ألف ليلة وليلة ، وفي ذات الوقت ينقل إبراهيم بن عبد الحميد ويقول : ( دخلت على أبي الحسن الأول (ع) في بيته الذي كان يصلي فيه فإذا ليس في البيت شيء إلاّ حضفة (1) وسيف معلق ومصحف ) (2).

    وكان (ع) يسعى إلى بيت اللـه الحرام ماشياً لشدة تواضعه لله ، واجتهاده في العبادة ، وإذا عرفنا المسافة بين المدينة ومكة التي تقارب ( 400) كليو متر وطبيعة الصحراء في أرض الحجاز ، عرفنا مدى تحمل الإمام للصعاب في سبيل اللـه .

    يقول علي بن جعفر (ع) : ( خرجنا مع أخي موسى بن جعفر (ع) في أربع عُمَرٍ يمشي فيها إلى مكة بعياله وأهله ، واحدة منهن مشى فيها ستة وعشرين يوماً ، وأخرى خمسة وعشرين يوماً ، وأخرى أربعة وعشرين يوماً ، وأخرى واحداً وعشرين يوماً ) (3).

    أما شدة اجتهاده في الصلاة وهي قرة عين المؤمنين وملتقى الحبيب مع الحبيب فيقول عنها الحديث التالي :

    “ روي أنه كان يصلي نوافل الليل ، ويصلها بصلاة الصبح ، ثم يعقب حتى تطلع الشمس ، ويخر لله ساجداً فلا يرفع رأسه من السجدة والتحميد حتى يقرب زوال الشمس ، وكان يدعو كثيراً فيقول : اللـهم إني أسألك الراحة عند الموت ، والعفو عند الحساب ، ويكرر ذلك ، وكان من دعائه (ع) عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك ، وكان يبكي من خشية اللـه حتى تخضلّ لحيته بالدموع ، وكان أوصل الناس لأهله ورحمه ، وكان يفتقد فقراء المدينة “ (4) .

    والواقع أن اجتهاد الإمام في عبادة ربه والتبتل إليه بالصلوات والأدعية ، هو السبب الذي بعثه اللـه به مقاما محموداً . وهو الذي أعطاه قدرة تحمل أعباء الرسالة التي نهض بها وضحّى بما لديه في سبيل تبليغها ، وكانت صلواته أعظم مؤنس له في ظلِّ ظُلم الطغاة ، فهذا أحمد بن عبد اللـه ينقل عن أبيه فيقول : ( دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطح فقال لي : إشرف على هذا البيت وانظر ما ترى ؟ فقلت : ثوباً مطروحا فقال : أنظر حسناً فتأملت فقلت : رجل ساجد ، فقال لي : تعرفه ؟ هو موسى بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة ، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة ، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء ، وهو دأبه فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ، وقال بعض عيونه : كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه :

    “ اللـهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرِّغني لعبادتك ، اللـهم وقد فعلت فلك الحمد “ (5) .

    أما قراءته للقرآن ، فيحدثنا عنها حفص ويقول : ( ما رأيت أحداّ أشد خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر (ع) ولا أرجى للناس منه ، وكانت قراءته حزناً ، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً (6).

    لقد علّمه القرآن الكريم أسمى القيم ، ومن أبرزها الإشفاق على نفسه ، والسعي الدائب لتزكيتها وخلاصها من غضب الرب ، وإصلاحها لتكون موضع محبة الخالق ورضوانه .

    بينما كان يرجو للناس كل خير ، ولم يكن رجاؤه مجرداً عن العمل ، بل كان (ع) يتقرب إلى اللـه بالإحسان إلى الناس ، فقد كان يتفقد فقراء أهل البيت فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير ذلك ، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو)(7).



    ب - جوده وكرمه :

    بالتوكل على اللـه واليقين يعظم ثواب المحسنين عنده ، والثقة بأنه الرزاق ذو القوة المتين . يعطي المؤمن عطاءً لا يخشى الفقر ، وأئمة الهدى هم المثل الأسمى في الكرم والجود ، فهذا الإمام موسى بن جعفر (ع) مع ما كان يعيشه من ظروف قاسية ، اشتهر بهذه الصفة في الآفاق .

    جاء في التاريخ رواية مأثورة عن محمد بن عبد اللـه البكري ، قال :

    ( قدمت المدينة أطلب ديناً فأعياني ، فقلت لو ذهبت إلى أبي الحسن (ع) فشكوت إليه ، فأتيته بنقمي في ضيعته ، فخرج إليّ ومعه غلام ومعه منسف فيه قديد مجزع ، ليس معه غيره ، فأكل فأكلت معه ، ثم سألني عن حاجتي فذكرت له قصَّتي ، فدخل ولم يقم إلاّ يسيراً حتى خرج إليّ فقال لغلامه : إذهب ثم مدّ يده إليّ فناولني صرة فيها ثلاثمائة دينار ، ثم قام فولى فقمت فركبت دابّتي وانصرفت ) (8).

    وروي عن أبي الفرج في مقاتل الطالبيين عن يحيى بن الحسن قال : ( كان موسى بن جعفر (ع) إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير ، وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين دينار ، فكانت صرار موسى مثلاً )(9).

    وجاء في حكاية تاريخية طريفة أن المنصور العباسي تقدم إلى موسى بن جعفر (ع) بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز ، وقبض ما يحمل إليه فقال (ع) :

    “ إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول اللـه (ص) فلم أجد لهذا العيد خبراً ، وإنه سنة للفرس ومحاها الإسلام ، ومعاذ اللـه أن نحيي ما محاه الإسلام “ .

    فقال المنصور : إنما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك باللـه العظيم إلاّ جلست ، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنئونه ، ويحملون إليه الهدايا والتحف ، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل ، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن فقال له : يا ابن بنت رسول اللـه إني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك ولكن أتحفك بثلاثة أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي (ع) :

    عجبـت لمصقول عــــلاك فرنده * يوم الهيــاج وقـد عــلاك غبــار

    ولأسهم نفذتــــك دون حــــرائـر * يدعــون جدك والـدموع غــزار

    ألا تغضغضت السَّهـام وعـاقهـا * عــن جسمــك الإجـلال والإكبار

    قال : قُبلت هديتك ، إجلس بارك اللـه فيك ، ورفع رأسه إلى الخادم وقال : إمضي إلى أمير المؤمنين وعرّفه بهذا المال وما يصنع به ، فمضى الخادم وعاد وهو يقول : كلّها هبة منّي له ، يفعل به ما أراد ، فقال موسى للشيخ : إقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك ) (10).

    وكان يلقى بكرمه عدوه فإذا به يصبح ولياً حميماً ، فهذا شخص من أولاد الخليفة الثاني كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (ع) ويسبه إذا رآه ، ويشتم عليّاً ، فقال له بعض حاشيته يوماً : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم ، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع ناحية من نواحي المدينــة ، فركب إليه ، فوجده في مزرعة له ، فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري لا توطىء زرعنا، فتوطأه (ع) بالحمار حتى وصل إليه ونزل وجلس عنده ، وباسطه وضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟ قال : مائة دينار ، قال : فكم ترجو أن تصيب ؟ قال : لست أعلم الغيب ، قال له : إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه ؟ قال : أرجو أن يجيء مائتا دينار .

    قال : فأخرج له أبو الحسن (ع) صرة فيها ثلاثمائة دينار ، وقال هذا زرعك على حاله ، واللـه يرزقك فيه ما ترجو ، قال : فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف ، قال : وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً فلما نظر إليه قال : اللـه أعلم حيث يجعل رسالاته قال : فوثب أصحابه إليه فقالوا له : ما قضيتك ؟ قد كنت تقول غير هذا ، قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو لأبي الحسن (ع) فخاصموه وخاصمهم ، فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري : إيَّما كان خيراً ما أردتم أم ما أردت ؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكُفيت به شره (11).



    ج - علمـه (ع) :

    سبق الحديث عن علم الإمام ونعود هنا لنثبت رواية طريفة في علمه ، حيـث ينقل عن محمـد بن النعمان المعروف بأبي حنيفة إمام المذهب أنه قال :

    ( رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه ، فقلت : أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك ؟ فنظر إليّ ثم قال : يتوارى خلف الجدار ويتوقَّى عن أعين الجار ، ويتجنب شطوط الأنهار ومساقط الثمار ، وأفنية الدور والطرق النافذة ، والمساجد ، ولا يستقبل القبلة ، ولا يستدبرها ، ويرفع ويضع ذلك حيث شاء .

    قال : فلما سمعت هذا القول منه ، نبل في عيني ، وعظم في قلبي فقلت له : جعلت فداك ممن المعصية ؟ فنظر إليّ ثم قال : إجلس حتى أخبرك ، فجلست فقال : إن المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعاً ، فإن كانت من اللـه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله ، وان كانت منهما فهو شريكه ، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، وإليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت الجنة والنار فقلت :

    { ذريةً بعضها من بعض } ( آل عمران / 34) .

    وروي عنه الخطيب في تاريخ بغداد ، والسمعاني في الرسالة القومية ، وأبو صالح أحمد المؤذن في الأربعين ، وابو عبد اللـه بن بطة في الإبانة ، والثعلبي في الكشف والبيان ، وكان أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت (ع) لما روي عنه قال : حدثني موسى بن جعفر قال : حدثني أبي جعفر بن محمد وهكذا إلى النبي (ص) ثم قال أحمد : ( وهذا إسناد لو قُرِأ على المجنون أفاق ) .



    شجاعته واستقامته :

    لقد حمل الإمام أعباء رسالات الأنبياء بذات العزيمة العظيمة التي كانت للنبيين (ع) . لقد تحدى كل طغيان الإستكبار ، وكل تراكمات الفساد بثقة مطلقة برب العالمين .

    حينما يأتيه الفضل بن الربيع ويقول له : استعد للعقوبة يا أبا إبراهيم رحمك اللـه فقال (ع) : “ أليس معي من يملك الدنيا والآخرة ولن يقدر اليوم على سوء بي إن شاء اللـه “ :

    وحينما يدخل على هارون الرشيد ذلك الطاغية الذي كان يخاطب مرة السحاب ويفتخر بسعة سلطانه ، فيقول : شرِّقي غرِّبي فأنّى ذهبت فخراجك إليّ .

    يقول له هارون : ما هذه الدار ؟

    فقال الإمام : هذه دار الفاسقين ، قال اللـه تعالى :

    { سَاَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لاَيُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } (الاعراف/146)

    فقال له هارون : فدار من هي ؟ قال : “ هي لشيعتنا فترة ، ولغيرهم فتنة “ .

    قال : فما بال صاحب الدار لا يأخذها ؟ فقال : “ أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلاّ معمورة “ .

    قال فأين شيعتك ، فقرأ أبو الحسن (ع) :

    { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } (البَيِّنةِ/1)

    قال : فقال له : فنحن كفّار ؟ قال : لا .. ولكن كما قال اللـه :

    { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللـه كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } (اِبراهيم/28)

    فغضب عند ذلك وغلّظ عليه (12).

    ومن المعتقل حيث تحيط به جلاوزة السلطات المجرمون ، كتب رسالة إلى الرّشيد جاء فيها : “ إنه لن ينقضيَ عنّي يوم من البلاء إلاّ انقض عنك معه يوم من الرضاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له إنقضاء يخسر فيه المبطلون “ (13).

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (1) الحضفة : الحيكة تعمل من الخوص للتمر ، وأيضاً يقال للثوب الغليظ جداً .

    (2) المصدر : ( ص 100 ).

    (3) المصدر.

    (4) المصدر : ( ص 102 ).

    (5) المصدر : ( ص 107 ، 108 ) .

    (6) المصدر : ( ص 111 ) .

    (7) المصدر : ( ص 108 )

    (8) المصدر : ( ص 102 ) .

    (9) مقاتل الطالبيين ( ص 104 ) .

    (10) المصدر : ( ص 108 ) .

    (11) المصدر : ( ج 56 ، ص 102 - 103 ) .

    (12) البحار : ج 56 ( ص 223 ) .

    (13) المصدر : ( ص 148 ).




    عدل سابقا من قبل الماستر في الإثنين 27 يونيو 2011, 6:18 am عدل 1 مرات
    الماستر
    الماستر
    الاداريون
    الاداريون


    رسالة sms رسالة sms : مرحبا بك
    زائر


    عدد المساهمات : 4802
    تاريخ التسجيل : 04/10/2009
    العمر : 41
    الموقعhttps://adeladel.ahlamontada.com

    حصري رد: فصول حول الامام موسى بن جعفر عليهما السلام

    مُساهمة من طرف الماستر الإثنين 27 يونيو 2011, 6:15 am

    الفصل الخامس: محنتـه وشهادتـه



    بعد محنة أبي عبد اللـه الحسين (ع) ، وأكثر من سائر أئمة الـهدى من أهل بيت الرسول ، كانت محنة أبي إبراهيم موسى بن جعفر (ع) شديدة وأليمة .

    لقد كان الرّشيد يترصده ولا يقدر عليه ، ولعله كان يخشى من بعث جيش إليه خوف انقلابه وتحوله إلى صفِّه ، وكانت السرّية التي عمل بها الرساليون تجعل السلطات لا تثق بأقرب الناس إليهم ، فهذا علي بن يقطين وزير الرّشيد ، وذاك وزيره الآخر جعفر بن محمد بن الأشعث شيعيان ، كما كان من بين قيادات جيشه ، وأبرز ولاته على الأمصار من يخفي ولائه لآل البيت (ع) ، فلذلك قرر الذهاب بنفسه إلى المدينة ، لإلقاء القبض عليه ، وأخذ معه قوّاته الخاصة ، بالإضافة إلى جيش من الشعراء ، وعلماء السلاطين ، والمستشارين و. و. كما أنه حمل معه الملايين مما سرقه من المحرومين ، فقسّمها بين الناس لشراء سكوتهم .

    وخص منهم رؤساء القبائل ووجوه وأعيان المعارضة .

    هكذا ذهب الرّشيد إلى المدينة ليلقي القبض على أعظم معارضي سلطانه الغاصب ، لننظر ما فعل :

    أولاّ : جلس عدة أيام يستقبل الناس ويأمر لهم بالصِّلات السخية ، حتى أشبع بطون المعارضين ، ممن كانت معارضتهم للسلطة لأسباب شخصية ومصالح خاصة .

    ثانياً : بعث في البلد من يبث الدعايات ضد أعداء السلطان ، وأغرى الشعراء وعملاء السلطة من أدعياء الدين بمدح السلطان وإصدار الفتاوى بحرمة محاربته .

    ثالثاً : استعرض قوّته لأهل المدينة لكي لا يفكر أحد بمقاومته في هذا الوقت بالذات .

    رابعاً : وحينما أكمل استعداده قام شخصياً بتطبيق البند الأخير من خطته الإرهابية ، فدخل مسجد رسول اللـه ، ربما في وقت يجتمع الناس لأداء الفريضة ، ولا يتخلف عنهـم - بالطبـع - الإمام موسـى بن جعفـر (ع) .

    ثم تقدم إلى قبر الرسول وسلم عليه : وقال : السلام عليك يا رسول اللـه ، يا ابن عم .

    وكان هدفه إثبات شرعية خلافته لرسول اللـه ، لتكون سبباً وجيهاً لاعتقال الإمام (ع) ، ولكن الإمام فوّت عليه هذه الفرصة ، وشق الصفوف حتى تقدمها وتوجه إلى القبر الشريف وقال في ذهول الجميع : السلام عليك يا رسول اللـه ، السلام عليك يا جدّاه .

    فلإن كان رسول اللـه ابن عمك يا سلطان الجور ، وإنّك تدّعي شرعية سلطتك بانتمائك النسبي لرسول اللـه (ص) ، فإنه أقرب إليّ ، فهو جدي وأنا أحقَّ بخلافته منك .

    ولكن الرّشيد استدرك الموقف وقال وهو يبرّر عزمه على اعتقال الإمام بالقول :

    بأبي أنت وأمي يا رسول اللـه ، إني أعتذر إليك من أمر عزمت عليه ، وإني أريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه ، لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم .

    فلما كان اليوم التالي أرسل إليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول اللـه ، فأمر بالقبض عليه وحبسه (1) .

    وأخرج من داره بغلان عليهما قبتان مغطاتان هو في أحدهما ، ووجّه مع كل واحدة منهما خيلاً فأخذ بواحدة على طريق البصرة ، والأخرى على طريق الكوفة ، ليعمي على الناس امره ، وكان الإمام في القبة التي مضت على البصرة ، وأمر الرسول أن يسلم إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ، وكان والياً يومئذ على البصرة فمضى به فحبسه عنده سنة .

    ثم كتب إلى الرّشيد أن خذه منّي ، وسلّمه إلى من شئت ، وإلاّ خلّيت سبيله ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة ، فما أقدر على ذلك ، حتى أني لأتسمّع عليه إذا دعا لعله يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه ، يسأله الرحمة والمغفرة ، فوجّه من تسلمه منه ، وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد ، فبقي عنده مدة طويلة ، وأراده الرّشيد على شيء من أمره فأبى ، فكتب بتسليمه إلى الفضل بن يحيى ، فتسلّمه منه وأراد ذلك منه فلم يفعل ، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ، وهو حينئذ بالرقة .

    فأنفذ مسروراً الخادم إلى بغداد على البريد ، وامره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر (ع) فيعرف خبره ، فإن كان الأمر على ما بلغه أوصل كتاباً منه إلى العباس بن محمد وأمره بامتثاله ، وأوصل منه كتاباً آخر إلى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس (2).

    وتمضي الرواية التاريخية لتقول : وبلغ يحيى بن خالد فركب إلى الرّشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه ، حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر ، ثم قال : التفت إليّ يا أمير المؤمنين فأصغى إليه فزعاً ، فقال له : إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد ، فانطلق وجهه وسرّ وأقبل على الناس فقال : إن الفضل كان عصاني في شيء فلعنته وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه ، فقالوا له : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد توليناه . ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد فماج الناس وأرجفوا بكل شيء ، فأظهر أنه ورد لتعديل السواد ، والنظر في أمر العمّال وتشاغل ببعض ذلك ، ودعا السندي فأمره فيه بامره ، فامتثله وسأل موسى (ع) السندي عند وفاته أن يحضره مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد في أصحاب القصب ليغسله ، ففعــل ذلك ، قال : وسألتــــه أن يأذن لي أن أكفّنه فأبــى وقــال :

    ( إنا أهل البيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا ، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا ، وعندي كفني ) .

    فلما مات أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عدي وغيره فنظروا إليه ولا أثر به ، وشهدوا على ذلك وأخرج فوضع على الجسر ببغداد ، ونودي : هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو (ع) ميت .

    قال : وحدّثني رجل من بعض الطالبيّين أنه نودي عليه : هذا موسى بن جعفر الذي تَزعم الرافضة أنه لا يموت ، فانظروا إليه ، فنظروا إليه .

    قالوا : وحمل فدفن في مقابر قريش ، فوقع قبره ، إلى جانب رجل من النوفلِّيين يقال له عيسى بن عبد اللـه (3).

    وتنقل الروايات التاريخية : أن الإمام (ع) كان يتصل بشيعته وأهل دعوته من السجون التي يتناقل فيها ، ويأمرهم بأمره ، كما انه كان يجيب عن مسائلهم السياسية ، والفقهية .

    وقد نتساءل : كيف كان (ع) يتصل بهم ، لعله بطرق غيبية ، ولكن أحاديث كثيرة تبيّن لنا أن أكثر من سجن عندهم الإمام (ع) قالوا بإمامته ، بالرغم من أن السلطة كانت تختار سجّانه من بين أغلظ الناس وأكثرهم ولاءً لها ، لما كانوا يرونه فيه من شدة الإجتهاد في العبادة ، وغزارة العلم ومكارم الأخلاق ، ولما كانوا يرونه منه من كرامات .

    وفي كتاب الأنوار قال العامري : إن هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية خصيفة ، لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجـن ، فقـال قل له : { بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } (النَّـمْل/36).

    لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها ، قال : فاستطار هارون غضباً وقال : إرجع إليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخذناك ، واترك الجارية عنده وانصرف ، قال : فمضى ورجع ، ثم قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول : قدوس سبحانك سبحانك .

    فقال هارون : سحرها واللـه موسى بن جعفر بسحره ، عليّ بها ، فأتي بها وهي ترعد شاخصة نحو السماء بصرها فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني الشأن البديع ، إنّي كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف عن صلاته بوجهه وهو يسبح اللـه ويقدّسه قلت : يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها ؟ قال : وما حاجتي إليك ؟ قلت : إني أدخلت عليك لحوائجك قال : فما بال هؤلاء ؟ قالت : فالتفت فإذا روضة مزهــرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصفاء ووصائف لم أرَ مثل وجوههم حسناً ، ولا مثل لباسهم لباساً ، عليهم الحرير الأخضر ، والأكاليل والدرّ والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كل الطعام ، فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت .

    قال : فقال هارون : يا خبيثة لعلك سجدت فنمت فرأيت هذا في

    منامك ؟ قالت : لا واللـه يا سيدي إلاّ قبل سجودي رأيت فسجدت من أجل ذلك ، فقال الرّشيد : إقبض هذه الخبيثة إليك ، فلا يسمع هذا منها أحد ، فأقبلت في الصلاة ، فإذا قيل لها في ذلك قالت : هكذا رأيت العبد الصالح (ع) ، فسئلت عن قولها قالت : إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة ابعدي عن العبد الصالح ، حتى ندخل عليه فنحن له دونك ، فما زالت كذلك حتى ماتت ، وذلك قبل موت موسى بأيام يسيرة .

    هذه هي كرامة الإمام (ع) على اللـه ، وتلك هي عاقبة الرّشيد الظَّالم الطَّاغي .

    نـسأل اللـه العلي العظيـم أن يجعلنا ممـن يتولى أوليائه ، ويتبرأ من أعدائه ، ويسير على نهجهم أئمة الهدى من آل محمد ( صلى اللـه عليه وعليهم اجمعين ) والحمد لله رب العالمين .

    ــــــــــــــــــــــ

    (1) المصدر : ( ص 213 )

    (2) المصدر : ( ص 233) .

    (3) المصدر : ( ص 234 ) نقلاً عن كتاب الغيبة للطوسي : ( ص 22 ).

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 19 أبريل 2024, 9:13 pm