الشاعر الكميت بن زيد الأسدي ( رحمه الله )
( 60 - 126 هـ )اسمه ونسبه :
الكميت بن زيد الأسدي ، وينتهي نسبه إلى مُضَر بن نزار بن عدنان .
وهو من شعراء الكوفة في القرن الأول الهجري .
ولادته ونشأته :
ولد الكميت في سنة ( 60 هـ ) ، عاش عيشة مرضية ، سعيداً في دنياه ، داعياً إلى سنن الهدى .
فعاش حتى أتيحت له الشهادة ببركة دعاء الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) له بها في الكوفة ، في خلافة مروان بن محمد سنة ( 126 هـ ) بعد عام واحد من خلافته .
وكان ذكياً حاضر الجواب منذ صغره ، كاتباً حسن الخط ، خطيب بني أسد ، فقيهاً متضلعاً بالفقه ، فارساً ، شجاعاً ، سخياً ، حافظاً للقرآن .
وهو أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك .
وما فُتح للشيعة الحِجاج إلا بقول الكميت :
فَإِن هِيَ لَم تصلحْ لحيٍّ سِوَاهُمُ فإنَّ ذَوِي القُربى أحقُّ وأوجَب
ُيقولون لَم يُورثْ وَلَوْلا تُراثهُ لَقَد شركت فِيهَا بكيلٌ وأرحَبُ
علمه وفضله :
قال محمد العيساوي الجمحي :
الكميت أول من أدخل الجدل المنطقي في الشعر العربي فهو مجدد بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، وشعره ليس عاطفياً كبقية الشعراء ، بل إن شعره شعر مذهبي ، ذهني عقلي .
فهو شاعر يناضل عن فكرة عقائدية معينة ، وعن مبدء واضح ، ومنهج صحيح ، ودعوته هذه قد آمن بها ، وكرَّس لها حياته وجهده ، وتحمل في سبيلها الأذى ومات
بسببها .
وقال أبو الفرج :
شاعر ، مقدَّم ، عالم بلغات العرب ، خبير بأيامها ، من شعراء مضر وألسنتها المتعصبين ، ومن العلماء بالمثالب والأيام المفاخرين بها ، كان في أيام بني أمية ، ولم يدرك العباسية ، وكان معروفاً بالتشيع لبني هاشم ، مشهوراً بذلك [ الغدير 2 / 286 ] .
وقال الفرزدق له :
أنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي .
وسُئل معاذ الهرَّاء :
من أشعر الناس ؟
قال : أمن الجاهليين أم من الإسلاميين ؟
قالوا : بل من الجاهليين .
قال : امرؤ القيس ، وزهير ، وعبيد بن الأبرص .
قالوا : فمن الإسلاميين ؟
قال : الفرزدق ، وجرير ، والأخطل ، والراعي .
قال : فقيل له : يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت .
قال : ذاك أشعر الأولين والآخرين .
دعاء الأئمة ( عليهم السلام ) له :
قلّما دُعي لأحد مثلما دُعي للكميت ، وقد أكثر النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة من أولاده ( عليهم السلام ) دعاءهم له .
فاسترحم له النبي ( صلى الله عليه وآله ) مرَّة واستجزى له بالخير وأثنى عليه أخرى .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً : ( بوركت وبورك قومك ) .
ودعا له الإمام السجاد ( عليه السلام ) بقوله : ( اللهم أحيه سعيداً وامته شهيداً ، وأره الجزاء عاجلاً ، وأجزل له جزيل المثوبة آجلا ) .
ودعا له الإمام الباقر ( عليه السلام ) في مواقف شَتَّى في مثل أيام التشريق بمنى وغيرها ، متوجهاً إلى الكعبة بالاسترحام والاستغفار له غير مرَّة .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) أيضاً : ( لا تزال مؤيداً بروح القدس ) .
وقال ( عليه السلام ) أيضاً : ( اللهم اغفر للكميت ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر ) .
ودعا له الإمام الصادق ( عليه السلام ) في مواقفه المشهودة في أشرف الأيام رافعاً يديه قائلا : ( اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وأخِّر ، وما أسرَّ وأعلن ، وأعطه حتى يرضى ) .
وكانت قبيلة بني أسد – قبيلة الكميت – يشعرون ببركة دعاء النبي ( صلى الله عليه
وآله ) له ولهم بقوله : بوركت وبورك قومك .
فإنهم يشاهدون آثار الإجابة فيهم ، ويجدون في أنفسهم نفحاتها .
وكانوا يقولون : إن فينا فضيلة ليست في العالم ، ليس منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت .
وسبب كل ذلك هو رؤية النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المنام ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أنشدني ( طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ) ، فأنشده الكميت ، فقال النبي
( صلى الله عليه وآله ) له : بوركت وبورك قومك .
ولاؤه لأهل البيت ( عليهم السلام ) :
كانت جُلُّ أشعار الكميت في مدح أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وذلك في زمن الدولة الأموية التي كانت تغدق الأموال لشراء الألسن والشعراء ، والمديح والثـناء .
ومع ذلك نرى أن الكميت قد لوى وجهه عنهم إلى أناس مضطهدين مقهورين ، ويقاسي من جرَّاء ذلك الخوف والاختفاء ، تتقاذف به المفاوز والحزون .
فليس من الممكن أن يكون ما يتحرَّاه إلا خاصة في من يتولاهم لا توجد عند غيرهم .
فهذا هو شأن الكميت مع أئمة الدين ( عليهم السلام ) ، فقد كان يعتقد فيهم أنهم وسائله إلى الله سبحانه ، وواسطة نجاحه في عقباه ، وأن مودَّتهم أجرُ الرسالة الكبرى .
قال ( صاعد ) مولى الكميت :دخلنا مع الكميت على فاطمة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، فقالت : هذا شاعرنا أهل البيت ، وجاءت بقدح فيه سويق ، فحركته بيدها ، وسقت الكميت فشربه ، ثم أمرت له بثلاثين ديناراً ومركب .
فهملت عيناه ، وقال : لا والله لا أقبلها ، إني لم أحبكم للدنيا .
وللكميت فى رده الصلاة الطائلة على سروات المجد من بني هاشم ، مكرمة ومحمدة عظيمة ، أبقت له ذكرى خالدة .
وكلٌ من تِلكُمُ المواقف شاهد صدق على خالص ولائه ، وقوة إيمانه ، وصفاء نيته ، وحسن عقيدته ، ورسوخ دينه ، وإباء نفسه ، وعلوِّ هِمَّته ، وثباته في مبدئه العلوي المقدس .
وصدق في ما قاله للإمام السجاد ( عليه السلام ) : إني قد مدحتك على أن يكون لي وسيلة عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ويعرب عن ذلك كله صريح قوله للإمام الباقر ( عليه السلام ) : والله ما أحبُّكم لغَرَضِ الدينا ، وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما أوجب الله عليّ من الحق .
وقوله الآخر له ( عليه السلام ) : لا والله ، لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عَزَّ وجلَّ الذي يكافئني .
وقوله للإمامين الصادقين ( عليهما السلام ) : والله ما أحببتكم للدنيا ، ولو أردتها لأتيت من هي في يديه ، ولكني أحببتكم للآخرة .
وكان أئمة الدين ورجالات بني هاشم يلحُّون في أخذ الكميت صلاتهم وقبوله عطاياهم ، مع إكبارهم محلّه من ولائه ، واعتنائهم البالغ بشأنه والاحتفاء والتبجيل له ، والاعتذار منه بمثل قول الامام السجاد ( عليه السلام ) له : ( ثوابك نعجز عنه ، ولكن ما عجزنا عنه فإن الله لا يعجز عن مكافأتك ) .
وهو مع ذلك كله كان على قدم وساق من إبائه واستعفائه ، إظهاراً لولائه المحض لآل الله ، فقد رَدَّ على الإمام السجاد ( عليه السلام ) أربعمِائة ألف درهم ، وطلب منه ثيابه التي تلي جسده ( عليه السلام ) ليتبرك بها .
وردَّ على الإمام الباقر ( عليه السلام ) مِائة ألف مَرَّةً ، وخمسين ألفاً أخرى ، وطلب قميصاً من قمصانه ( عليه السلام ) .
ورَدَّ على الإمام الصادق ( عليه السلام ) ألف دينار وكسوة ، واستدعى منه أن يكرمه بالثوب الذي مسَّ جلده ( عليه السلام ) .
ورَدَّ على عبد الله بن الحسن ضـيعته التي أعطى له كتابها وكانت تساوي أربعة آلاف دينار .
ورَدَّ على عبد الله الجعفري ما جمع له من بني هاشم ما كان يقدَّر بمِائة ألف درهم .
فكل هذه تؤيد بأن مدح الكميت عترة نبيه الطاهرة وولاءه لهم ، وتَهَالُكَهُ في حبِّهم ، وبذله النفس والنفيس دونهم ، ونيله من مناوئيهم ، ونصبه العداء لمخالفيهم ، لم يكن إلا لله تعالى ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) فحسب ، وما كان له غرض من حطام الدنيا وزخرفها .
وقد عَرَّض لبني أمية دَمَهُ ، مستقبِلاً صوارمهم ، كما نصَّ عليه الإمام زين العابدين
( عليه السلام ) ، فقال ( عليه السلام ) : ( اللهم إن الكميت جاء في آل رسولك وذرية نبيك نفسه حين ضنَّ الناس ، وأظهر ما كتمه غيره ) .
وقال عبد الله الجعفري لبني هاشم : هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم ، وعَرَّض دمه لبني أمية .
بعض نوادره :
1 - حينما كان الكميت ينشد الشعر وهو صغير ، مر به الفرزدق ، فقال له الفرزدق : أيَسُرُّك أني أبوك ؟
فقال : لا ، ولكن يسرُّني أن تكون أمِّي ! فَحَصِرَ الفرزدق فأقبل على جلسائه ، وقال : ما مرَّ بي مثلُ هذا قَطٌّ .
2 - كان الكميت مختفياً عند أبي الوضاح ، فسقط غراب على الحائط ونعب ، فقال الكميت لأبي الوضاح : إني لمأخوذ ، وإن حائطك لساقط .
فقال : سبحان الله ! هذا ما لا يكون إن شاء الله تعالى .
وكان الكميت خبيراً بالزجر – الكهانة – فقال له : لا بدَّ أن تحوِّلني ، فخرج به إلى بني علقمة – وكانوا يتشيعون – فأقام فيهم .
ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب .
شهادته :
استشهد الكميت ( رحمه الله ) في الكوفة في خلافة مروان بن محمد سنة ( 126 هـ ) ، وكان السبب في ذلك أنه ( رحمه الله ) مدح يوسف بن عمر ، بعد عزل خالد القسري عن العراق في قصيدة قال فيها :
خَرجتَ لهم تُمسِي البراحَ وَلَم تَكُنكَمَن حِصنُهُ فيه الرتاجُ المضَّببُوَمَا خَالدٌ يَستَطعِمُ المَاءَ فَاغِراًبِعَدلِكَ والدَّاعِي إِلَى المَوتِ يَنعبُوكان الجند على رأس يوسف متعصبين لخالد ، فوضعوا نعال سيوفهم في بطن الكميت
( رحمه الله ) ، فُوْجِؤُوهُ بها ، وقالوا : أتنشد الأمير ولم تستأمره ؟
فلم يزل ينزف الدم حتى مات ( رحمه الله ) .
وروي عن المستهل بن الكميت أنه قال : حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه ، ثم أفاق ففتح عينه ثم قال ( رحمه الله ) : ( اللهم آل محمد ، اللهم آل محمد ، اللهم آل محمد ) ، ثلاثاً .
وروي أيضاً أنه ( رحمه الله ) قال لولده المستهل : إذا متُّ فامضِ بي إلى موضع يقال
( مكران ) ، فادفنِّي فيه .
فدفن الكميت ( رحمه الله ) في ذلك الموضع ، وكان أوَّل من دفن فيه ، وهي مقبرة بني أسد .
( 60 - 126 هـ )اسمه ونسبه :
الكميت بن زيد الأسدي ، وينتهي نسبه إلى مُضَر بن نزار بن عدنان .
وهو من شعراء الكوفة في القرن الأول الهجري .
ولادته ونشأته :
ولد الكميت في سنة ( 60 هـ ) ، عاش عيشة مرضية ، سعيداً في دنياه ، داعياً إلى سنن الهدى .
فعاش حتى أتيحت له الشهادة ببركة دعاء الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) له بها في الكوفة ، في خلافة مروان بن محمد سنة ( 126 هـ ) بعد عام واحد من خلافته .
وكان ذكياً حاضر الجواب منذ صغره ، كاتباً حسن الخط ، خطيب بني أسد ، فقيهاً متضلعاً بالفقه ، فارساً ، شجاعاً ، سخياً ، حافظاً للقرآن .
وهو أول من ناظر في التشيع مجاهراً بذلك .
وما فُتح للشيعة الحِجاج إلا بقول الكميت :
فَإِن هِيَ لَم تصلحْ لحيٍّ سِوَاهُمُ فإنَّ ذَوِي القُربى أحقُّ وأوجَب
ُيقولون لَم يُورثْ وَلَوْلا تُراثهُ لَقَد شركت فِيهَا بكيلٌ وأرحَبُ
علمه وفضله :
قال محمد العيساوي الجمحي :
الكميت أول من أدخل الجدل المنطقي في الشعر العربي فهو مجدد بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، وشعره ليس عاطفياً كبقية الشعراء ، بل إن شعره شعر مذهبي ، ذهني عقلي .
فهو شاعر يناضل عن فكرة عقائدية معينة ، وعن مبدء واضح ، ومنهج صحيح ، ودعوته هذه قد آمن بها ، وكرَّس لها حياته وجهده ، وتحمل في سبيلها الأذى ومات
بسببها .
وقال أبو الفرج :
شاعر ، مقدَّم ، عالم بلغات العرب ، خبير بأيامها ، من شعراء مضر وألسنتها المتعصبين ، ومن العلماء بالمثالب والأيام المفاخرين بها ، كان في أيام بني أمية ، ولم يدرك العباسية ، وكان معروفاً بالتشيع لبني هاشم ، مشهوراً بذلك [ الغدير 2 / 286 ] .
وقال الفرزدق له :
أنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي .
وسُئل معاذ الهرَّاء :
من أشعر الناس ؟
قال : أمن الجاهليين أم من الإسلاميين ؟
قالوا : بل من الجاهليين .
قال : امرؤ القيس ، وزهير ، وعبيد بن الأبرص .
قالوا : فمن الإسلاميين ؟
قال : الفرزدق ، وجرير ، والأخطل ، والراعي .
قال : فقيل له : يا أبا محمد ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت .
قال : ذاك أشعر الأولين والآخرين .
دعاء الأئمة ( عليهم السلام ) له :
قلّما دُعي لأحد مثلما دُعي للكميت ، وقد أكثر النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة من أولاده ( عليهم السلام ) دعاءهم له .
فاسترحم له النبي ( صلى الله عليه وآله ) مرَّة واستجزى له بالخير وأثنى عليه أخرى .
وقال ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً : ( بوركت وبورك قومك ) .
ودعا له الإمام السجاد ( عليه السلام ) بقوله : ( اللهم أحيه سعيداً وامته شهيداً ، وأره الجزاء عاجلاً ، وأجزل له جزيل المثوبة آجلا ) .
ودعا له الإمام الباقر ( عليه السلام ) في مواقف شَتَّى في مثل أيام التشريق بمنى وغيرها ، متوجهاً إلى الكعبة بالاسترحام والاستغفار له غير مرَّة .
وقال الإمام الباقر ( عليه السلام ) أيضاً : ( لا تزال مؤيداً بروح القدس ) .
وقال ( عليه السلام ) أيضاً : ( اللهم اغفر للكميت ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر ) .
ودعا له الإمام الصادق ( عليه السلام ) في مواقفه المشهودة في أشرف الأيام رافعاً يديه قائلا : ( اللهم اغفر للكميت ما قدَّم وأخِّر ، وما أسرَّ وأعلن ، وأعطه حتى يرضى ) .
وكانت قبيلة بني أسد – قبيلة الكميت – يشعرون ببركة دعاء النبي ( صلى الله عليه
وآله ) له ولهم بقوله : بوركت وبورك قومك .
فإنهم يشاهدون آثار الإجابة فيهم ، ويجدون في أنفسهم نفحاتها .
وكانوا يقولون : إن فينا فضيلة ليست في العالم ، ليس منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت .
وسبب كل ذلك هو رؤية النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المنام ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : أنشدني ( طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ) ، فأنشده الكميت ، فقال النبي
( صلى الله عليه وآله ) له : بوركت وبورك قومك .
ولاؤه لأهل البيت ( عليهم السلام ) :
كانت جُلُّ أشعار الكميت في مدح أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وذلك في زمن الدولة الأموية التي كانت تغدق الأموال لشراء الألسن والشعراء ، والمديح والثـناء .
ومع ذلك نرى أن الكميت قد لوى وجهه عنهم إلى أناس مضطهدين مقهورين ، ويقاسي من جرَّاء ذلك الخوف والاختفاء ، تتقاذف به المفاوز والحزون .
فليس من الممكن أن يكون ما يتحرَّاه إلا خاصة في من يتولاهم لا توجد عند غيرهم .
فهذا هو شأن الكميت مع أئمة الدين ( عليهم السلام ) ، فقد كان يعتقد فيهم أنهم وسائله إلى الله سبحانه ، وواسطة نجاحه في عقباه ، وأن مودَّتهم أجرُ الرسالة الكبرى .
قال ( صاعد ) مولى الكميت :دخلنا مع الكميت على فاطمة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، فقالت : هذا شاعرنا أهل البيت ، وجاءت بقدح فيه سويق ، فحركته بيدها ، وسقت الكميت فشربه ، ثم أمرت له بثلاثين ديناراً ومركب .
فهملت عيناه ، وقال : لا والله لا أقبلها ، إني لم أحبكم للدنيا .
وللكميت فى رده الصلاة الطائلة على سروات المجد من بني هاشم ، مكرمة ومحمدة عظيمة ، أبقت له ذكرى خالدة .
وكلٌ من تِلكُمُ المواقف شاهد صدق على خالص ولائه ، وقوة إيمانه ، وصفاء نيته ، وحسن عقيدته ، ورسوخ دينه ، وإباء نفسه ، وعلوِّ هِمَّته ، وثباته في مبدئه العلوي المقدس .
وصدق في ما قاله للإمام السجاد ( عليه السلام ) : إني قد مدحتك على أن يكون لي وسيلة عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ويعرب عن ذلك كله صريح قوله للإمام الباقر ( عليه السلام ) : والله ما أحبُّكم لغَرَضِ الدينا ، وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وما أوجب الله عليّ من الحق .
وقوله الآخر له ( عليه السلام ) : لا والله ، لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عَزَّ وجلَّ الذي يكافئني .
وقوله للإمامين الصادقين ( عليهما السلام ) : والله ما أحببتكم للدنيا ، ولو أردتها لأتيت من هي في يديه ، ولكني أحببتكم للآخرة .
وكان أئمة الدين ورجالات بني هاشم يلحُّون في أخذ الكميت صلاتهم وقبوله عطاياهم ، مع إكبارهم محلّه من ولائه ، واعتنائهم البالغ بشأنه والاحتفاء والتبجيل له ، والاعتذار منه بمثل قول الامام السجاد ( عليه السلام ) له : ( ثوابك نعجز عنه ، ولكن ما عجزنا عنه فإن الله لا يعجز عن مكافأتك ) .
وهو مع ذلك كله كان على قدم وساق من إبائه واستعفائه ، إظهاراً لولائه المحض لآل الله ، فقد رَدَّ على الإمام السجاد ( عليه السلام ) أربعمِائة ألف درهم ، وطلب منه ثيابه التي تلي جسده ( عليه السلام ) ليتبرك بها .
وردَّ على الإمام الباقر ( عليه السلام ) مِائة ألف مَرَّةً ، وخمسين ألفاً أخرى ، وطلب قميصاً من قمصانه ( عليه السلام ) .
ورَدَّ على الإمام الصادق ( عليه السلام ) ألف دينار وكسوة ، واستدعى منه أن يكرمه بالثوب الذي مسَّ جلده ( عليه السلام ) .
ورَدَّ على عبد الله بن الحسن ضـيعته التي أعطى له كتابها وكانت تساوي أربعة آلاف دينار .
ورَدَّ على عبد الله الجعفري ما جمع له من بني هاشم ما كان يقدَّر بمِائة ألف درهم .
فكل هذه تؤيد بأن مدح الكميت عترة نبيه الطاهرة وولاءه لهم ، وتَهَالُكَهُ في حبِّهم ، وبذله النفس والنفيس دونهم ، ونيله من مناوئيهم ، ونصبه العداء لمخالفيهم ، لم يكن إلا لله تعالى ولرسوله ( صلى الله عليه وآله ) فحسب ، وما كان له غرض من حطام الدنيا وزخرفها .
وقد عَرَّض لبني أمية دَمَهُ ، مستقبِلاً صوارمهم ، كما نصَّ عليه الإمام زين العابدين
( عليه السلام ) ، فقال ( عليه السلام ) : ( اللهم إن الكميت جاء في آل رسولك وذرية نبيك نفسه حين ضنَّ الناس ، وأظهر ما كتمه غيره ) .
وقال عبد الله الجعفري لبني هاشم : هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم ، وعَرَّض دمه لبني أمية .
بعض نوادره :
1 - حينما كان الكميت ينشد الشعر وهو صغير ، مر به الفرزدق ، فقال له الفرزدق : أيَسُرُّك أني أبوك ؟
فقال : لا ، ولكن يسرُّني أن تكون أمِّي ! فَحَصِرَ الفرزدق فأقبل على جلسائه ، وقال : ما مرَّ بي مثلُ هذا قَطٌّ .
2 - كان الكميت مختفياً عند أبي الوضاح ، فسقط غراب على الحائط ونعب ، فقال الكميت لأبي الوضاح : إني لمأخوذ ، وإن حائطك لساقط .
فقال : سبحان الله ! هذا ما لا يكون إن شاء الله تعالى .
وكان الكميت خبيراً بالزجر – الكهانة – فقال له : لا بدَّ أن تحوِّلني ، فخرج به إلى بني علقمة – وكانوا يتشيعون – فأقام فيهم .
ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب .
شهادته :
استشهد الكميت ( رحمه الله ) في الكوفة في خلافة مروان بن محمد سنة ( 126 هـ ) ، وكان السبب في ذلك أنه ( رحمه الله ) مدح يوسف بن عمر ، بعد عزل خالد القسري عن العراق في قصيدة قال فيها :
خَرجتَ لهم تُمسِي البراحَ وَلَم تَكُنكَمَن حِصنُهُ فيه الرتاجُ المضَّببُوَمَا خَالدٌ يَستَطعِمُ المَاءَ فَاغِراًبِعَدلِكَ والدَّاعِي إِلَى المَوتِ يَنعبُوكان الجند على رأس يوسف متعصبين لخالد ، فوضعوا نعال سيوفهم في بطن الكميت
( رحمه الله ) ، فُوْجِؤُوهُ بها ، وقالوا : أتنشد الأمير ولم تستأمره ؟
فلم يزل ينزف الدم حتى مات ( رحمه الله ) .
وروي عن المستهل بن الكميت أنه قال : حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه ، ثم أفاق ففتح عينه ثم قال ( رحمه الله ) : ( اللهم آل محمد ، اللهم آل محمد ، اللهم آل محمد ) ، ثلاثاً .
وروي أيضاً أنه ( رحمه الله ) قال لولده المستهل : إذا متُّ فامضِ بي إلى موضع يقال
( مكران ) ، فادفنِّي فيه .
فدفن الكميت ( رحمه الله ) في ذلك الموضع ، وكان أوَّل من دفن فيه ، وهي مقبرة بني أسد .