ديوان السيد حيدر الحلي
(اغراضه وفنونه)
د. فارس عزيز مسلم
ترجمة حيدر الحلي
هو السيَّد حيدر (*) بن سليمان وُلد في الحلة ( في قرية بيرمانة ) سنة 1831 ، وتوفي فيها في سنة 1886 أو 1887 ، ودُفن في النجف .
وقد تزامنت سنة ولادته مع حدثين كبيرين ، أحدهما بيئي والآخر سياسي ، أمّا الحدث البيئي فهو وباء الطاعون سنة 1831 ، إذْ اجتاح هذا الوباء مدينة الحلة ، و " قد قضى على أعداد كبيرة من سكانها " (1) ، إذ " يمكن القول إنَّ هذا الطاعون كان أفظع وباءٍ حَلَّ بالعراق .
عَبْر تاريخه الطويل " (2) . وأمَّا الحدث السياسي الذي يتزامن مع سنة ولادة السيد حيدر الحلي فهو انتهاء حكم المماليك (3) .
نشأ السيد حيدر الحلي يتيماً فكفله عمُّهُ السيد مهدي بن داود وشبَّ في كنفه وتربى في حجره وتحت كفالته ووصايته حتى صار شاعراً وأديباً مؤّلفاً ومصنَّفاً (4) . وقد نال السيد حيدر الحلي شهرة واسعة وسمعة عريضة حتَّى فضَّلهُ أصحاب التراجم على كلّ من تعاطى رثاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) " من فحول شعراء الشيعة المتقدمين والمتأخرين " (5) وهذه مبالغة لا شكَّ فيها ، وحكم انطباعي لا ريبَ فيه تناقلهُ أناسٍ عن أناسٍ بلا تعقيب دقيق أو تمحيص شديد أو فحص شامل وكامل لأدب الطف الطويل العريض المغرق في القدم والمترامي الأطراف على مرَّ العصور .
الأغراض
• المديح
• الرثاء
• الحماسة
• الغزل
• الهجاء
المديح
يُعَدُّ المديح " من أبرز أغراض الشعر العربي " (6) بل هو أبرز " الفنون الشعرية على الإطلاق " (7) فلقد " أعجب الشاعر العربي بالخلق الحميد والرأي السديد والشجاعة الفائقة والكرم الواسع " (8) ولكنَّ الشاعر العربي عند الجاهلية شدَّدَ كثيراً على خصلة الكرم في الممدوح إذ " لم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم " (9) ، وعلى هذا المنوال ظل الشعر العربي " يرسم المثالية الخلقية الرفيعة التي تقدَّرها الجماعة " (10) بغض النظر عن انطباقها أو عدم انطباقها على الممدوح .
والسيد حيدر الحلي من شعراء المديح إذ يقول عن نفسه :
وأنا الذي لم يسخُ بي أحَدٌ
إلاَّ غدا ونديمه الندمُ
وإذا اهتززتُ لمدح ذي كَرَمٍ
فأنا لسانٌ والزمانُ فمُ (11)
لذلك يُسلكه بعض الباحثين في سلك شعراء أو ووَشَّاحي التكسب لأنَّه كان يتلقى الهدايا والمنح التي كانت تسعى إليه في بيته (12) ، وهذا طبيعي فـ" أغلب المديح يكون من أجل التكسب (*) واستجداء المال . لذلك فإنَّ معظم الممدوحين يجب أن يكونوا من الملوك والولاة والحكام أو ذوي النفوذ والسطوة والجاه والمال " (13) .
ينقسم المديح في شعر السيد حيدر الحلي إلى قسمين هما :
أ. المدائح الدنيوية : وهي المدائح التي نظمت لمدح كبار الموظفين والحكام الإداريين ، وكبار العلماء وكبار الوجهاء والأشراف . ومجموع هذه المدائح هي سبع وعشرون قصيدة وثلاث مقطوعات . وتتصف هذه المدائح بالمبالغة الشديدة في وصف الممدوح ، والأمثلة لا تحصى ولا تحصر ، فالسيد حيدر الحلي يقول مخاطباً السيد سلمان النقيب في مطلع إحدى مدائحه :
سبقتُ الورى مجداً يدومُ بلا حَدِّ
فكانَ بلا قَبْلٍ ويبقى بلا بَعْدِ (14)
فمجد الممدوح ليس لهُ سابقة ولن يكون لهُ لاحقة ، وهذا المديح في غاية الغلو والمبالغة وكأنَّ السيد حيدر الحلي لا يقصد ما يقوله في المديح ، فهو لا يمدح ممدوحاً من لحم ودم ولكنه يمدح " مثلاً أعلى " لا يوجد إلا في عالم الخيال . وعلى هذا البيت من المديح يُقاس ما سواه من الأبيات في ديوان السيد حيدر الحلي المشحون بالمديح .
ويمكن أن يُلحق بغرض المديح أغراضُ أخرى في ديوان السيد حيدر الحلي مثل
( التهاني ) و ( الأخوانيات ) و ( العتاب ) و ( التعاريض ) فهي ، أيضاً مشحونة بالمديح ، كقول السيد حيدر الحلي مهنياً الحاج محمد صالح كبة بقدوم أخيه وابن أخيه من الحج :
ما بِصُلْبِ الدهر يجري مِثْلُهُ
إذْ على ميلادهِ صارَ عقيما (15)
وكقوله في ( الأخوانيات ) مخاطباً السيد ميرزا جعفر القزويني :
اسلمْ وحضرُتكَ المُهابه
للناس أمنٌ أو مثابه
أنت الهِزَبْرُ وإنَّما
لك حوزة الإسلام غابه
وستغتدي لك أو غدتْ
عن ( صاحب الأمر ) النيابه (16)
وكقوله في ( العتاب ) معاتباً السيد حيدر مهدي القزويي ومادحاً ابنه جعفر القزويني :
فتى أملي في ندى كفِّه
كبيرٌ وهمَّتُهُ أكبرُ
لهُ أنمُلٌ سُحُبٌ عشرُها
وراحٌ أساريرها أبحُرُ (17)
وكقول الشاعر في ( التضاريس ) مَقرِّضاً ( الباقيات الصالحات ) للشاعر عبد الباقي العمري:
أربَّ القوافي قد غدا لك مذعناً
بها محرز الفضل اكتساباً ووارثُهْ
لو " المتنبِّيْ " شاهدَ الحِكَمَ التي
نطقت بها ما شكَّ أنَّك باعثُهْ (18)
وهكذا نرى أن هذه الأغراض الشعرية كُلَّها تؤول إلى المديح وتُدرج في ثناياه وبذلك يطغى هذا الغرض على كلَّ ما عداه من الأغراض الشعرية الأخرى .
ب. المدائح الدينية : وهي المدائح التي نظمت في مدح النبي ( ص ) وآل البيت ( ع ) وهي ست قصائد وثماني مقطوعات . فهي – إذن – أقلُّ من المدائح الدنيوية وحتى في هذه المدائح الدينية يتخَلَّص السيد حيدر الحلي لمدح أو تهنئة بعض أهل زمانهِ ، كقوله ، متخلِّصاً ، في مدح السيد الميرزا حسن الشيرازي من ضمن قصيدة يمدح بها الحجة المهدي ( عج ) :
فتىً ذكرُهُ طارَ في الصالحات
وفي الخافقين بها طائِرَ
لقد جلَّ قدراً فلا ناظمٌ
ينالُ عُلاهُ ولا ناثِرُ
يُباري الصَّبا كَرَماً كفُّهُ
على أنَّهُ بالصبا ساحرُ
فإنْ أمطرَ استحيَت الغاديات
ونادت : لأنت الحيا الماطرُ (19)
الرثاء
الرثاء غرض قديم من أغراض الشعر ، فقد عرف السومريون المراثي (20) ، وهناك من الباحثين من يرى أنه قديم قدم الإنسان على هذه الأرض (21) ، والرثاء " من سنن الجاهلية القديمة " (22)ويعدُّ الرثاء امتداداً لغرض المديح إذ " ليسَ بين الرثاء والمدح فرق إلاّ أنَّه يخلط بالرثاء شيء يدلُّ على أنَّ المقصود به ميت " (23) .
وينقسم الرثاء في شعر السيَّد حيدر الحلي إلى قسمين هما :
1. الرثاء الدنيوي : وينقسم بدوره إلى قسمين ، أيضاً هما :
أ. رثاء الأقارب (24) كرثائه ولده (25)، أو أخاه (26) معه .
ب. رثاء العلماء الكبار (27) ، والأشراف والكبراء (28) والأصدقاء المقرَّبين (29) . ويبلغ مجموع هذه المراثي خمسين مرثية ( 47 قصيدة و 3 مقطوعات ) .
2. الرثاء الديني : هو الرثاء الذي قيل في حقَّ أهل البيت ( ع ) ، ويتألف من قصيدتين في رثاء الإمام علي ( ع ) ، وقصيدة واحدة في رثاء الإمام العباس ( ع ) واثنتين وعشرين قصيدة ومقطوعة واحدة في رثاء الإمام الحسين ( ع ) ، أي ما يبلغ مجموعُهُ خمساً وعشرين مرثية ، كان نصيب الإمام الحسين ( ع ) – كما رأينا نصيب الأسد ، ولم يرثِ السيد حيدر الحلي النبي الأكرم محمَّد ( ص ) ولا فاطمة الزهراء ( ع ) بل اقتصر رثاؤه على مَن ذكرناهُ من الأئمة الطاهرين .
وبالرثاء عامة ، وبرثاء أهل البيت خاصة ، لاسيما الإمام الحسين ( ع ) حصل السيد حيدر الحلي على شهرة واسعة ونال " في هذا المضمار إعجاب كبار الشعراء والأدباء في عصره " (30) فقد " اتفق أكثر النقاد على أنَّ الشاعر كان غير مُجيد في موضوعات الشعر ما عدا الرثاء " (31) ، وقد عدّه بعضهم " كإمام في صناعة الرثاء " (32) .
وقد حاول د. محمد مهدي البصير تعليل إجادة السيد حيدر الحلي في فن الرثاء حتى كان " فارس حلبة الرثاء في القرن الثالث عشر غير مدافع " (33) .
فجعلها في صنفين ( نفسية ) و ( ثقافية ) . " فأمَّا النفسية فبعضها ظاهر وهو ما نُكِبَ به من اليُتْم في الصغر ومُني به من الفقر والمرض في الكبر ، وبعضها باطن وهو ... أنَّ حيدراً من شعراء العواطف الذين خلقوا ليعبرَّوا عمَّا في الحياة من ألم ويترجموا عمَّا فيها من حزن وكآبة " (34) ، إذ إن كثرة رثاء أهل البيت ورثاء شهداء الطف تعني – عند الدكتور محمد مهدي البصير – " أنَّ حيدراً شاعر كئيب في فطرته عُجنت طينته بماء الحزن ، وجُبلت طبيعته على الشعور بالألم ، فنشأ باكي الخيال عابس الشعور لا ينظر إلى الحياة إلاَّ من ناحيتها السوداء ولا يجدُ فيها شيئاً غير الحسرة والأسف " (35) .
وهذا الكلام الذي تناقله العديد من الباحثين (36) – على عواهنه – غير صحيح في مجمله ومبالغٍ فيه ومجانب للحقيقة إلى حدٍّ ما والواقع إن السيد حيدر الحلي لم يكن كئيباً دائماً وأبداً في شعره ، ولم ينقطع " إلى الرثاء انقطاعاً " (37) ، كما يذهب د. محمد مهدي البصير ، بل هو شاعرٌ لهُ الكثير من القصائد التي تدعو إلى الفرح والبهجة ، لاسيما في غرض(التهاني) ، كقوله في إحدى تهانيه :
نفحات السرور أحيَتْ حبيبا
فَحَبَتْنا من النسيب نصيبا
وأعادت لنا ( صريع الغواني )
يسترِّقُّ الغرام والتشبيبا
غادرتنا نجرُّ ( رِجْلَ خليعٍ )
غَزِلٍ بالصِّبا يعدُّ المشيبا (38)
نعَّمتْنا بناعم القَدِّ غضًّ
قد كساه الشبابُ بُرْداً قشيبا
وكقوله في قصيدة أخرى ، أيضاً ، مهنياً :
طرب الدهرُ فاستهلَّ منيرا
يملأُ الكون بهجةً وسرورا
وسرَتْ نفحةٌ من البِشْر فيه
ضمَّختْ خيمة السماء عبيرا
عُدْنَ أوقاته رقاقَ الحواشي
لك تهدي بشاشةً وحبورا (39)
وتهانيه الأُخَر مشحونة بألفاظ ( الفرح ، والسرور ، والغبطة ، والسعادة ، والتفاؤل وغيرها من الألفاظ والمعاني التي تدلُّ على أن السيد حيدر الحلي شاعر ( التهنئة ) مثلما هو شاعر (المرزأة ) وأنَّ شعره لم يكن يقطر حزناً وكآبة ، دائماً ، كما صوَّرَهُ د. محمد مهدي البصير .
ثم إن السيد حيدر الحلي لم ينقطع إلى الرثاء انقطاعاً ، كما رأينا ، فلهُ الكثير من الأغراض الشعرية غير الرثاء ويمكن القول إن المديح هو الذي استأثر بقصائده وغلب على شعره ، فالسيد حيدر الحلي شاعر مديح أوَّلاً .
أمَّا كثرة رثاء شهداء الطف في ديوان السيد حيدر الحلي فإنها لا تعدُّ كثرة في مدينة
( الحلة ) التي اشتهرت بكثرة الرثاء فيها " فلا نكادُ نطالع شعراً لأي شاعر حلي في هذه المرحلة الا ورأينا رثاءهُ لأهل البيت ( عليهم السلام ) قد فاق أي رثاء واستحوذ على مجمل شعره " (40) .
فأن الحلة " بزَّت مدن العراق في هذا الغرض الشعري " (41) فقد كان شعراء الحلة مشهورين بالرثاء " ولو استعرضنا دواوين شعراء الحلة ، لوجدنا أنَّ الرثاء يحتل مساحات كبيرة منها ، وأنَّه يؤلف الغرض الرئيس من الأغراض التي طرقوها ، فلا يخلو ديوان منها من باب المراثي " (42) .
أمَّا الأسباب الثقافية الذي علَّل بها د. محمد مهدي البصير تفوّق السيد حيدر الحلي في الرثاء فهي " صلته القوية بالشريف الرضي وصلته القوية كذلك بتلميذه مهيار " (43) وهذا صحيح في مجمله ولكن يُضاف إليه ، أيضاً ، صلته القوية بكل شعراء المديح والرثاء المجيدين وإطلاعه الواسع على التراث العربي وتمثّله له تمثيلاً وتأثره به تأثرُّاً .
خصائص رثائهِ
أهم خصيصة امتاز بها رثاء السيد حيدر الحلي للإمام الحسين ( ع ) هي دعوته
" الأخذ الثأر بدم الحسين ( ع ) " (44) فهو يردَّد هذه الدعوة في قصائدهِ بكُلَّ حماس ، حتى ليذهب به الحماس والغضب إلى قوله :
يا غيرةَ الله اهتفي
بحميَّة الدين المنيعة
وضبا انتقامك جرَّدي
لطلا ذوي البغي التليعة
ودعي جنود الله تملأ
هذه الأرض الوسيعة
واستأصلي حتى الرضيع
لآل حربٍ والرضيعة (45)
ومن الباحثين من رأى في رثاء السيد حيدر الحلي أدباً " زاخراً بالثورة على
الاستبداد " (46) ورأى في رثاء السيد حيدر الحلي للحسين ( ع ) " رثاء إنسان موتور حساس يرى حقوقه مهدورة وكرامته جريحة " (47) أي إن الشاعر ينطلق من عقيدة مذهبية راسخة فيما يقول ، ومنهم مَن لا يرى كذلك ، فالسيد حيدر الحلي يمدح الحكام العثمانيين السُّنَّة والعوائل السُّنِّيَّة المشهورة في بغداد والبصرة (48) .
والسيَّد حيدر الحلي يريد أن يدرك الثار من آل أمية ويتجاهل أنهم عظام في بطون التراب (49) . مَّما يعني أن المسألة مجرَّد كلام فالشاعر يقول في إحدى مراثيه للإمام الحسين(ع):
مالي أسالمُ قوماً عندهم تِرَتي
لا سالمتني يدُ الأيام إنْ سلموا (50)
" ولكن الشاعر مات ولم يحمل سيفاً ولم يَقفْ في معركة " (51)، ولكن الشاعر ، أيضاً ، غير مطالب بأن يفعل كُلَّ ما يقوله ، فقد وصف القرآن الكريم الشعراء بأنهم " يقولون ما لا يفعلون " (52) .
ومهما يكن من أمر ، فإن السيد حيدر الحلي لم يدعُ أهل زمانه أو نفسه مباشرة للثورة ولكنه دعا الإمام الحجة المنتظر ( عج ) للظهور والقيام بالثورة ، والشاعر أيضاً ينتظر الثورة وكأنّهُ يحلم بها دون أن يسعى إلى تحقيقها ، فهو في هذا كأستاذه ( الشريف الرضي ) ، إذ
يقول :
متى أراني ودرعي غير محصبةٍ
أجرُّ رمحي ، وسيفي غير مقروبِ (53)
فالشريف الرضي يطرح على نفسه سؤال " ثائر حالم " (54) ولذلك فالشريف الرضي – وبعده السيد حيدر الحلي – " لم يخرج عن حدود التصورات للثورة ، التي هي عنده رد نفسي عنيف على ما حوله ، ومَن حوله " (55) .
الحماسة
الحماسة : " تعني القوة والشدة والشجاعة ، والحماسة في الشعر هي التغني بالصفات التي تدلُّ على الشجاعة والقوة والاستهانة بالصعب من الأمور والعسير من المخاطر وخوض غمرات القتال ووصف ما يدورُ في الحرب من كَرًّ وفرَّ وجرحى وقتلى ودعوة للأخذ بالثأر وما إلى ذلك " (56) .
وللسيد حيدر الحلي بابٌ من الحماسة في ديوانه ، منها قوله متحمَّساً :
سنامُ علائيَ لم يُقرَعِ
وهضبة مجديَ لم تُطلَعِ
فقل لرجالٍ سَعَتْ جهدها
لتدرك فوق السُّهى موضعي
ولو أنَّ للشمس أحسابها
حياءً من الخزي لم تطلَعِ
قفي حيث أوقفك العجز أو
فطيري لأمِّ السَّما أو قعي
فلست بحائزةٍ سعيَ مَنْ
لهُ حوزةُ الشرف الأرفَعِ
فنحنُ بنو هاشمٍ لا نزال
لنا الصدرُ في الجمع والمجمعِ
ومن عزميَ البيضُ مطبوعةٌ
ولولا مضائيَ لم تقطع (57)
فالشاعر ، هنا ، يمزج بين الحماسة والفخر الذاتي و " هو ما دار حولَ الشاعر في نفسه وفي آبائهِ وأجداده " (58) .
ولا تقتصر الحماسة والفخر عند السيد حيدر الحلي على باب الحماسة في ديوانه فقط وإنما هي مبثوثة في قصائد رثاء الإمام الحسين عليه السلام أيضاً ، كقوله :
إنْ لم أقفْ حيث جيش الموت يزدحمُ
فلا مشَتْ بيَ في طرق العلا قَدَمُ
لا بدَّ أن أتداوى بالقنا فلقد
صبرت حتى فؤادي كلُّهُ المُ
عندي من العزم سرٌّ لا أبوح به
حتَّى تبوحَ به الهنديَّةُ الخُذُمُ (59)
إذ إن السيد حيدر الحلي يخلط الرثاء بالفخر والحماسة ، وهذا ما عدَّه بعض الباحثين ظاهرة غريبة في حَدّ ذاتها " لأن الرثاء ليسَ ، في الواقع ، سوى تفجُّع وانهيار ، وهو
لا يُسيغ الفخر والعتوَّ إطلاقاً " (60) . ولكن الموقف – هنا ومع السيد حيدر الحلي – يختلف إذْ إن الشاعر ، وكثيراً من أقرانه ، يقفون موقف المطالبين بالثأر الحاضين على الانتقام والحاثين على الثورة لذلك يُقدَّمون مراثيهم أو يمزجونها بالحماسة والفخر .
الغزل
الغزل : " أحد فنون الشعر وأغراضه " (61) وهو " بث اللوعة والشكوى من الحب وما يفعله في النفس " (62) وللسيد حيدر الحلي باب من الغزل في ديوانه ، كقوله متغزلاً :
خطرتْ في رداء حُسنٍ قشيبِ
تتثنَّى كغصنِ بانٍ رطيبِ
خلتُ لمَّا تفاوَح المسكُ منها
فُضَّ في رحلنا لَطيمة طيبِ
وتراني إذا رشفت لَماها
لم أخْلهُ إلاَّ جنا يعسوبِ
فاعتنقنا شوقاً وبتنا نشاوى
من كؤوس الكرى بغير رقيبِ
لا تلمني يا صاحبي في هواها
لَعِبَ الشوَقُ في فؤادي الطروبِ (63)
وللسيد حيدر الحلي ( غزل بالمذكر ) كقوله :
وأغيدَ منسوب إلى العُرْب لاحَ لي
على خدَّه خالٌ إلى الزنجِ يُنسَبُ
وما نظرتْ عيناي كالخال مبتلى
مقيماً على نارٍ من الخدِّ تلهبُ
فتلدغه أفعى من الجعد تارةً
وتلسبُهُ طوراً من الصدغ عقربُ (64)
وللسيد حيدر الحلي مقدَّمة غزلية في إحدى مراثيه للإمام الحسين عليه السلام مطلعها:
يا دارَ جائلة الوشاح
حيَّتْكِ نافحةُ الرياح (65)
إذ " العادة أن تقتصر المرثَية على الرثاء وحده ولا يُبتدأ فيها بنسيب " (66) . فالمراثي " لا تشتمل إلاّ على الرثاء دون سواه من الموضوعات " (67) .
الهجاء
الهجاء : " أحد أغراض الشعر ، وهو ضدّ المديح ، أي أنه ذكر المساوئ كما أن المديح ذكر المحاسن " (68) و " طريق الهجاء أيضاً يقصد فيه ما يُعلم أو يُقدَّر أنَّ المهجو يجزع من ذكره ويتألم من سمعه مَّمِا لهُ به عُلقة " (69) .
وللسيد حيدر الحلي القليل من مقطوعات الهجاء ، كقوله هاجياً :
أُكرِّرُ الطرْف لا أرى أبداً
إلاَّ غبيَّاً أنّى تلفتُّ
من كُلَّ مَن ذقنه ( كعانته )
والفم منهُ كأنه أستُ
ومعجباً كلُّ مشيه مَرَحٌ
مسْرفاً كلُّ أكْله سُحْتُ (70)
وكقوله هاجياً أهل زمانه :
ما أكثر الناس لولا أنَّهم بقرٌ
تأتي المثالبُ أفواجاً إذا ذُكروا
لو شامَ آدم بعضاً من فضائحهم
لما أحبَّ لهُ أن يُنسب البشرُ (71)
وفي باب ( العتاب ) نرى أو نشم رائحة الهجاء الحادة النفاذة ، كقول الشاعر في عتاب العلامة السيد ميرزا صالح القزويني خاتماً العتاب بهذا البيت :
أنت البغاثُ لمعشرٍ
فعلامَ صرتَ عليَّ صقرا ؟! (72)
وعلى أي حال ، فإن السيد حيدر الحلي لم يُخلق ( هجَّاءً ) " وإنما خُلق مدَّاحاً " أوَّلاً
و " رثَّاءً نوَّاحاً " ثانياً .
الفنون
• التخاميس
• الموشح
• التأريخ الشعري
التخاميس
التخميس : هو " إضافة ثلاثة اشطر على بيت لشاعر آخر " (73) وللسيد حيدر الحلي العديد من التخاميس لقصائد كاملة ، كقوله مخمِّساً قصيدة عمه السيد مهدي السيد داود في المطلع :
إِذا عَنَّ لي برقٌ يضيء على البعدِ
نزتْ كبدي من شدَّة الشوق والوجد
وناديتُ معتلَّ النسيم بلا رُشْدِ
" نسيم الصبا استنشقتُ منك شذا الندِّ
فهل سرت مجتازاً على دمنتي ( هند ) ؟ " (74)
وقد يُخمِّس السيد حيدر الحلي بيتين فقط لشاعرٍ آخر بناءً على سؤال أو التماس كما سأله الشاعر الشهير ، في عصره ، عبد الباقي العمري تخميس هذين البيتين للبوصيري في مدح الرسول ( ص ) :
كيف ترقى رقيَّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاولتها سماءُ
لم يُساووك في علاك وقدحا
لَ سنا منك دونهم وسناءُ
فقال السيد حيدر الحلي مُخمِّساً :
ما لحيث انتهى بك الإسراءُ
لمهبِّ العشر العقول ارتقاءُ
وإذا لم يكن إليك انتهاء
" كيف ترقى رُقيَّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاولتها سماءُ "
جُزتَ إذ فُتَّحتْ لك الحجبُ فتحا
لعلاً دونه على الرسل تُمحى
فلهم لو غدا ذُرى العرش سطحا
" لم يُساووك في علاك وقدحا
لسناً منك دونهم وسناءُ " (75)
والملاحظ في تخاميس السيد حيدر الحلي أنها تنظم في غرضي " المدح " (76) أو
" الاخوانيات " (77) فضلاً عن خلوِّها من التجربة الفنية الصادقة والباعث الذاتي إِذ ينظم السيد حيدر بعضاً من هذه التخاميس استجابةً لطلب من الآخرين وهذا يعني أنَّه يُكلَّف بذلك لذلك فإِنه - بالضرورة المنطقية والفنية – يتكلَّف النظم .
الموشح :
الموشح " كلام منظوم على وزن مخصوص " (78) وبدء ظهور الموشحات مسألة مختلف فيها لا تزال تتناولها الأقلام (79) ولكن الأكثر من الباحثين يرى أن هذا الفن هو أندلسي انتقل " إلى المشرق من المغرب ، مخالفاً بذلك ما جرت به العادة من ظهور الفنون الجديدة في المشرق وانتقالها إلى المغرب " (80) وقد أختلف ، أيضاً ، فيمن ابتكر هذا الفن في جزيرة الأندلس فقد قيل أن مخترعه كان " مقدَّم بن معافر الفريري " (81) في الأندلس ، ومنهم مَن قال إن مخترع هذا الفن ومبتكره هو " ابن المعتز " (82) .
أي أن الموشح " ظهر أوَّل ما ظهر في العراق " (83) .
وللسيد حيدر الحلي خمسة موشحات (84) ، غرضها التهاني ، تبتدئ أربعة موشحات منها بالنسيب والغزل ، وواحد منها تبتدئ بـ( حمزية ) ، يقول في أحد الموشحات مبتدئاً بالغزل مهنياً العلامة الحاج محمد حسن كبة عند مجيئه من الحج :
عَرَّفتْ ناسكةً ذاتُ اللُّمى
فرنت فاتكةً في أضلعي
ولكم بالهدب راشت أسهماً
فرمت شاكلتي صبري معي
أنشقتني يوم جَمْعٍ عَرْفَها
وعلى الخيف حمتني رشفَها
كحلِ الحسنُ لسحرٍ طرفها
ما رنت للصبِّ إلاّ أقسما
ما كذا ترنو ظباء الأجرعِ
والغواني تَدَّعي السحرَ وما
هو إلاَّ تحت ذاك البُرقُع (85)
ويقول مبتدئاً بذكر ( الخمر ) ، مهنياً الحاج محمد صَالح كبة عند عودة ولديه من الحج
اجتلي الكأسَ فذي كَفُّ الصَّبا
حَدَرتْ عن مبسم الصبح اللثاما
واصطبحْها من يدي غضَّ الصبا
أغيد يجلو محيَّاه الظلاما
*************
بنتُ كرمٍ زُوِّجَتْ بابن السُحُبْ
فتحلَّتْ في لئالٍ من حَبَبْ
مذ جلاها الشَّرْبُ في نادي الطَرَبْ
ضحكت في الكأس حتَّى قَطَّبا
غرِّقوا بالراح كسرى يا نُدامى
هي نارٌ في إناءٍ من بَرَدْ
عجباً ذابت به وهو جَمَدْ
أبداً تُحرق نمرودَ الكَمَدْ
وإذا منها الخليل اقتربا
غودِرتْ برداً عليه وسلاما
فاحتسى أُعذب من ماء الربى
خمرةً أطيب من نشر الخزامى (86)
ويعدُّ السيد حيدر الحلي من أشهر وشَّاحي الحلة في القرن التاسع عشر الميلادي (87) .
التاريخ الشعري
" هو أنّ ينظم الشاعر في آخر أبياته كلمات إذا حُسبت حروفها بحساب الجمَّل اجتمعت منها سنوات التاريخ المقصود من ولادة ، أو زواج ، أو وفاة ، أو سفر ، أو بناء مسجد ، أو تعيين في وظيفة ، أو عزل ، أو انتصار .... الخ " (88) .
والتاريخ الشعري يكون بحساب الجُمَّل ، إذ يكون لكل حرف من الحروف الأبجدية رقم كما في الجدول الآتي :
أ = 1 ي = 10 ق = 100
ب = 2 ك = 20 ر = 200
ج = 3 ل = 30 ش = 300
د = 4 م = 40 ت = 400
ﻫ = 5 ن = 50 ث = 500
و = 6 س = 60 خ = 600
ز = 7 ع = 70 ذ = 700
ح = 8 ف = 80 ض = 800
ط = 9 ص 90 ظ = 900
غ = 1000
ولهذا الفن أصول وقواعد وشروط ، أهمّها :
1- أن تذكر الكلمة أو الجملة المراد منها حساب عام الحادث المؤرخ بعد لفظة مشتقة من مادة ( التاريخ ) مثل يؤرِّخ ( الفعل المضارع ) أرِّخ ( الفعل الأمر ) أو مؤرِّخاً ( الحال ) أو غيرها .
2- أن لا يكون التاريخ الواحد في بيتين ، بل يكون في بيت واحد وفي عجز البيت غالباً ويوضع بين قوسين .
3- يجب أن يكون الحساب على موجب قاعدة ( ما يُكتب يُحسب ) بمعنى أنَّه لا تُحسب جملة التاريخ بمقتضى تلفظها ومنطوقها ، بل على موجب كتابتها ، فمثلاً الحرف المشدَّد لا يُحسب حرفين بل حرفاً واحداً ، لأنَّه كُتب حَرفاً واحداً ، ولا اعتبار بتشديده ، وكذلك همزة الوصل فإنَّها وإن لم تلفظ فإنَّها تُحسب لأنَّها تكتب ، ومثلها واو عمرو ، وواو الصلوة والزكوة ، وعلى هذا القياس يحسب ألف موسى وعيسى ويخشى وعلى بعشرة لأنّها تكتب بالياء كما أنَّ الألف المتلفَّظ بها بعد لام أولئك وبعدها هذا ولام الله لا تُحسب لأنها لم تكتب " (89) .
4- يستحب أن يذكر في جملة التاريخ الشعري اقتباساً من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف أو أشعار العرب المشهورة .
ولقد " شاع نظم التاريخ الشعري في العراق في القرون الأخيرة " (90) .
ومع شيوعهِ " في العراق في القرن التاسع عشر ، فإنه كان في الحلة أكثر شيوعاً ، والشعراء به أكثر اهتماماً ، ويندر أن نجد شاعراً حليَّاً لم ينظم فيه ، وذلك بسبب الفراغ الذي كان يُعاني منه الشعراء ، وعدم وجود ما يُجدي عمله لديهم ، وقوَّة العلامات الاجتماعية بينهم ، ثُمَّ إقبال الناس عليه ورواجه لديهم وشغفهم به ، حتى صاروا يؤرِّخون كُلَّ أمرٍ من أمورهم كبيرها وصغيرها " (91) . وللسيد حيدر الحلي باب ( التاريخيات ) كقوله مؤرخاً عام ولادة الحاج محمد صالح كبة في سنة 1201 هـ :
أتى اليوم حاتم أهل النهى
على أنَّهُ للندى فاتحُ
أغرُّ غدا السَعْدُ لمَّا استهلَّ
وَهْوَ لغرَّته ماسحُ
وهنَّا به المجدُ وُفَّادَهُ
وبشَّرَها الشَرَفُ الواضحَ
وقالوا جميعاً وقد أرَّخوا :
( نرى وُلِدَ الخلف الصالح ) (92)
وجليّ أن هذه الأبيات قد قُصِدَ بها المديح والتأريخ الشعري معاً ، فهي – إذن – تدخل في باب المديح الواسع المتعدد المنافذ عند السيد حيدر الحلي .
الخاتمة
السيد حيدر الحلي شاعر شهير من شعراء القرن التاسع عشر ، طرق أبواب الشعر جميعها لاسيما باب المديح وباب الرثاء فكان شاعراً مدَّاحاً أوَّلاً وشاعراً نَّواحاً ثانياً ، وقد اشتُهِر بغرض الرثاء لاسيما رثاء الإمام الحسين ( ع ) وحصل على إكبار وإعجاب معاصريه ومُجايليه وقد مزج في رثائه بين الحماسة والفخر .
أمّا فنون شعره فكانت ( الموشح ) و ( التخاميس ) و ( التاريخ الشعري ) والسيد حيدر الحلي لم يتفوَّق في هذه الفنون ولم تقم شهرته عليها بل قامت شهرته على الرثاء ، كما قدَّمنا ، فالرثاء عند السيد حيدر الحلي هُوَ الدعامة الأساسية والقاعدة الرئيسية التي قامت عليها شهرته لأنه أجاد في هذا الفن إجادة كبيرة فلو حذفنا باب الرثاء من دِيوان السيد حيدر الحلي لما استحق الديوان أن يقلبَهُ أحد . فالرثاء هو وحده ما يستحق القراءة والدراسة في ديوان السيد حيدر الحلي!.
(اغراضه وفنونه)
د. فارس عزيز مسلم
ترجمة حيدر الحلي
هو السيَّد حيدر (*) بن سليمان وُلد في الحلة ( في قرية بيرمانة ) سنة 1831 ، وتوفي فيها في سنة 1886 أو 1887 ، ودُفن في النجف .
وقد تزامنت سنة ولادته مع حدثين كبيرين ، أحدهما بيئي والآخر سياسي ، أمّا الحدث البيئي فهو وباء الطاعون سنة 1831 ، إذْ اجتاح هذا الوباء مدينة الحلة ، و " قد قضى على أعداد كبيرة من سكانها " (1) ، إذ " يمكن القول إنَّ هذا الطاعون كان أفظع وباءٍ حَلَّ بالعراق .
عَبْر تاريخه الطويل " (2) . وأمَّا الحدث السياسي الذي يتزامن مع سنة ولادة السيد حيدر الحلي فهو انتهاء حكم المماليك (3) .
نشأ السيد حيدر الحلي يتيماً فكفله عمُّهُ السيد مهدي بن داود وشبَّ في كنفه وتربى في حجره وتحت كفالته ووصايته حتى صار شاعراً وأديباً مؤّلفاً ومصنَّفاً (4) . وقد نال السيد حيدر الحلي شهرة واسعة وسمعة عريضة حتَّى فضَّلهُ أصحاب التراجم على كلّ من تعاطى رثاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) " من فحول شعراء الشيعة المتقدمين والمتأخرين " (5) وهذه مبالغة لا شكَّ فيها ، وحكم انطباعي لا ريبَ فيه تناقلهُ أناسٍ عن أناسٍ بلا تعقيب دقيق أو تمحيص شديد أو فحص شامل وكامل لأدب الطف الطويل العريض المغرق في القدم والمترامي الأطراف على مرَّ العصور .
الأغراض
• المديح
• الرثاء
• الحماسة
• الغزل
• الهجاء
المديح
يُعَدُّ المديح " من أبرز أغراض الشعر العربي " (6) بل هو أبرز " الفنون الشعرية على الإطلاق " (7) فلقد " أعجب الشاعر العربي بالخلق الحميد والرأي السديد والشجاعة الفائقة والكرم الواسع " (8) ولكنَّ الشاعر العربي عند الجاهلية شدَّدَ كثيراً على خصلة الكرم في الممدوح إذ " لم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم " (9) ، وعلى هذا المنوال ظل الشعر العربي " يرسم المثالية الخلقية الرفيعة التي تقدَّرها الجماعة " (10) بغض النظر عن انطباقها أو عدم انطباقها على الممدوح .
والسيد حيدر الحلي من شعراء المديح إذ يقول عن نفسه :
وأنا الذي لم يسخُ بي أحَدٌ
إلاَّ غدا ونديمه الندمُ
وإذا اهتززتُ لمدح ذي كَرَمٍ
فأنا لسانٌ والزمانُ فمُ (11)
لذلك يُسلكه بعض الباحثين في سلك شعراء أو ووَشَّاحي التكسب لأنَّه كان يتلقى الهدايا والمنح التي كانت تسعى إليه في بيته (12) ، وهذا طبيعي فـ" أغلب المديح يكون من أجل التكسب (*) واستجداء المال . لذلك فإنَّ معظم الممدوحين يجب أن يكونوا من الملوك والولاة والحكام أو ذوي النفوذ والسطوة والجاه والمال " (13) .
ينقسم المديح في شعر السيد حيدر الحلي إلى قسمين هما :
أ. المدائح الدنيوية : وهي المدائح التي نظمت لمدح كبار الموظفين والحكام الإداريين ، وكبار العلماء وكبار الوجهاء والأشراف . ومجموع هذه المدائح هي سبع وعشرون قصيدة وثلاث مقطوعات . وتتصف هذه المدائح بالمبالغة الشديدة في وصف الممدوح ، والأمثلة لا تحصى ولا تحصر ، فالسيد حيدر الحلي يقول مخاطباً السيد سلمان النقيب في مطلع إحدى مدائحه :
سبقتُ الورى مجداً يدومُ بلا حَدِّ
فكانَ بلا قَبْلٍ ويبقى بلا بَعْدِ (14)
فمجد الممدوح ليس لهُ سابقة ولن يكون لهُ لاحقة ، وهذا المديح في غاية الغلو والمبالغة وكأنَّ السيد حيدر الحلي لا يقصد ما يقوله في المديح ، فهو لا يمدح ممدوحاً من لحم ودم ولكنه يمدح " مثلاً أعلى " لا يوجد إلا في عالم الخيال . وعلى هذا البيت من المديح يُقاس ما سواه من الأبيات في ديوان السيد حيدر الحلي المشحون بالمديح .
ويمكن أن يُلحق بغرض المديح أغراضُ أخرى في ديوان السيد حيدر الحلي مثل
( التهاني ) و ( الأخوانيات ) و ( العتاب ) و ( التعاريض ) فهي ، أيضاً مشحونة بالمديح ، كقول السيد حيدر الحلي مهنياً الحاج محمد صالح كبة بقدوم أخيه وابن أخيه من الحج :
ما بِصُلْبِ الدهر يجري مِثْلُهُ
إذْ على ميلادهِ صارَ عقيما (15)
وكقوله في ( الأخوانيات ) مخاطباً السيد ميرزا جعفر القزويني :
اسلمْ وحضرُتكَ المُهابه
للناس أمنٌ أو مثابه
أنت الهِزَبْرُ وإنَّما
لك حوزة الإسلام غابه
وستغتدي لك أو غدتْ
عن ( صاحب الأمر ) النيابه (16)
وكقوله في ( العتاب ) معاتباً السيد حيدر مهدي القزويي ومادحاً ابنه جعفر القزويني :
فتى أملي في ندى كفِّه
كبيرٌ وهمَّتُهُ أكبرُ
لهُ أنمُلٌ سُحُبٌ عشرُها
وراحٌ أساريرها أبحُرُ (17)
وكقول الشاعر في ( التضاريس ) مَقرِّضاً ( الباقيات الصالحات ) للشاعر عبد الباقي العمري:
أربَّ القوافي قد غدا لك مذعناً
بها محرز الفضل اكتساباً ووارثُهْ
لو " المتنبِّيْ " شاهدَ الحِكَمَ التي
نطقت بها ما شكَّ أنَّك باعثُهْ (18)
وهكذا نرى أن هذه الأغراض الشعرية كُلَّها تؤول إلى المديح وتُدرج في ثناياه وبذلك يطغى هذا الغرض على كلَّ ما عداه من الأغراض الشعرية الأخرى .
ب. المدائح الدينية : وهي المدائح التي نظمت في مدح النبي ( ص ) وآل البيت ( ع ) وهي ست قصائد وثماني مقطوعات . فهي – إذن – أقلُّ من المدائح الدنيوية وحتى في هذه المدائح الدينية يتخَلَّص السيد حيدر الحلي لمدح أو تهنئة بعض أهل زمانهِ ، كقوله ، متخلِّصاً ، في مدح السيد الميرزا حسن الشيرازي من ضمن قصيدة يمدح بها الحجة المهدي ( عج ) :
فتىً ذكرُهُ طارَ في الصالحات
وفي الخافقين بها طائِرَ
لقد جلَّ قدراً فلا ناظمٌ
ينالُ عُلاهُ ولا ناثِرُ
يُباري الصَّبا كَرَماً كفُّهُ
على أنَّهُ بالصبا ساحرُ
فإنْ أمطرَ استحيَت الغاديات
ونادت : لأنت الحيا الماطرُ (19)
الرثاء
الرثاء غرض قديم من أغراض الشعر ، فقد عرف السومريون المراثي (20) ، وهناك من الباحثين من يرى أنه قديم قدم الإنسان على هذه الأرض (21) ، والرثاء " من سنن الجاهلية القديمة " (22)ويعدُّ الرثاء امتداداً لغرض المديح إذ " ليسَ بين الرثاء والمدح فرق إلاّ أنَّه يخلط بالرثاء شيء يدلُّ على أنَّ المقصود به ميت " (23) .
وينقسم الرثاء في شعر السيَّد حيدر الحلي إلى قسمين هما :
1. الرثاء الدنيوي : وينقسم بدوره إلى قسمين ، أيضاً هما :
أ. رثاء الأقارب (24) كرثائه ولده (25)، أو أخاه (26) معه .
ب. رثاء العلماء الكبار (27) ، والأشراف والكبراء (28) والأصدقاء المقرَّبين (29) . ويبلغ مجموع هذه المراثي خمسين مرثية ( 47 قصيدة و 3 مقطوعات ) .
2. الرثاء الديني : هو الرثاء الذي قيل في حقَّ أهل البيت ( ع ) ، ويتألف من قصيدتين في رثاء الإمام علي ( ع ) ، وقصيدة واحدة في رثاء الإمام العباس ( ع ) واثنتين وعشرين قصيدة ومقطوعة واحدة في رثاء الإمام الحسين ( ع ) ، أي ما يبلغ مجموعُهُ خمساً وعشرين مرثية ، كان نصيب الإمام الحسين ( ع ) – كما رأينا نصيب الأسد ، ولم يرثِ السيد حيدر الحلي النبي الأكرم محمَّد ( ص ) ولا فاطمة الزهراء ( ع ) بل اقتصر رثاؤه على مَن ذكرناهُ من الأئمة الطاهرين .
وبالرثاء عامة ، وبرثاء أهل البيت خاصة ، لاسيما الإمام الحسين ( ع ) حصل السيد حيدر الحلي على شهرة واسعة ونال " في هذا المضمار إعجاب كبار الشعراء والأدباء في عصره " (30) فقد " اتفق أكثر النقاد على أنَّ الشاعر كان غير مُجيد في موضوعات الشعر ما عدا الرثاء " (31) ، وقد عدّه بعضهم " كإمام في صناعة الرثاء " (32) .
وقد حاول د. محمد مهدي البصير تعليل إجادة السيد حيدر الحلي في فن الرثاء حتى كان " فارس حلبة الرثاء في القرن الثالث عشر غير مدافع " (33) .
فجعلها في صنفين ( نفسية ) و ( ثقافية ) . " فأمَّا النفسية فبعضها ظاهر وهو ما نُكِبَ به من اليُتْم في الصغر ومُني به من الفقر والمرض في الكبر ، وبعضها باطن وهو ... أنَّ حيدراً من شعراء العواطف الذين خلقوا ليعبرَّوا عمَّا في الحياة من ألم ويترجموا عمَّا فيها من حزن وكآبة " (34) ، إذ إن كثرة رثاء أهل البيت ورثاء شهداء الطف تعني – عند الدكتور محمد مهدي البصير – " أنَّ حيدراً شاعر كئيب في فطرته عُجنت طينته بماء الحزن ، وجُبلت طبيعته على الشعور بالألم ، فنشأ باكي الخيال عابس الشعور لا ينظر إلى الحياة إلاَّ من ناحيتها السوداء ولا يجدُ فيها شيئاً غير الحسرة والأسف " (35) .
وهذا الكلام الذي تناقله العديد من الباحثين (36) – على عواهنه – غير صحيح في مجمله ومبالغٍ فيه ومجانب للحقيقة إلى حدٍّ ما والواقع إن السيد حيدر الحلي لم يكن كئيباً دائماً وأبداً في شعره ، ولم ينقطع " إلى الرثاء انقطاعاً " (37) ، كما يذهب د. محمد مهدي البصير ، بل هو شاعرٌ لهُ الكثير من القصائد التي تدعو إلى الفرح والبهجة ، لاسيما في غرض(التهاني) ، كقوله في إحدى تهانيه :
نفحات السرور أحيَتْ حبيبا
فَحَبَتْنا من النسيب نصيبا
وأعادت لنا ( صريع الغواني )
يسترِّقُّ الغرام والتشبيبا
غادرتنا نجرُّ ( رِجْلَ خليعٍ )
غَزِلٍ بالصِّبا يعدُّ المشيبا (38)
نعَّمتْنا بناعم القَدِّ غضًّ
قد كساه الشبابُ بُرْداً قشيبا
وكقوله في قصيدة أخرى ، أيضاً ، مهنياً :
طرب الدهرُ فاستهلَّ منيرا
يملأُ الكون بهجةً وسرورا
وسرَتْ نفحةٌ من البِشْر فيه
ضمَّختْ خيمة السماء عبيرا
عُدْنَ أوقاته رقاقَ الحواشي
لك تهدي بشاشةً وحبورا (39)
وتهانيه الأُخَر مشحونة بألفاظ ( الفرح ، والسرور ، والغبطة ، والسعادة ، والتفاؤل وغيرها من الألفاظ والمعاني التي تدلُّ على أن السيد حيدر الحلي شاعر ( التهنئة ) مثلما هو شاعر (المرزأة ) وأنَّ شعره لم يكن يقطر حزناً وكآبة ، دائماً ، كما صوَّرَهُ د. محمد مهدي البصير .
ثم إن السيد حيدر الحلي لم ينقطع إلى الرثاء انقطاعاً ، كما رأينا ، فلهُ الكثير من الأغراض الشعرية غير الرثاء ويمكن القول إن المديح هو الذي استأثر بقصائده وغلب على شعره ، فالسيد حيدر الحلي شاعر مديح أوَّلاً .
أمَّا كثرة رثاء شهداء الطف في ديوان السيد حيدر الحلي فإنها لا تعدُّ كثرة في مدينة
( الحلة ) التي اشتهرت بكثرة الرثاء فيها " فلا نكادُ نطالع شعراً لأي شاعر حلي في هذه المرحلة الا ورأينا رثاءهُ لأهل البيت ( عليهم السلام ) قد فاق أي رثاء واستحوذ على مجمل شعره " (40) .
فأن الحلة " بزَّت مدن العراق في هذا الغرض الشعري " (41) فقد كان شعراء الحلة مشهورين بالرثاء " ولو استعرضنا دواوين شعراء الحلة ، لوجدنا أنَّ الرثاء يحتل مساحات كبيرة منها ، وأنَّه يؤلف الغرض الرئيس من الأغراض التي طرقوها ، فلا يخلو ديوان منها من باب المراثي " (42) .
أمَّا الأسباب الثقافية الذي علَّل بها د. محمد مهدي البصير تفوّق السيد حيدر الحلي في الرثاء فهي " صلته القوية بالشريف الرضي وصلته القوية كذلك بتلميذه مهيار " (43) وهذا صحيح في مجمله ولكن يُضاف إليه ، أيضاً ، صلته القوية بكل شعراء المديح والرثاء المجيدين وإطلاعه الواسع على التراث العربي وتمثّله له تمثيلاً وتأثره به تأثرُّاً .
خصائص رثائهِ
أهم خصيصة امتاز بها رثاء السيد حيدر الحلي للإمام الحسين ( ع ) هي دعوته
" الأخذ الثأر بدم الحسين ( ع ) " (44) فهو يردَّد هذه الدعوة في قصائدهِ بكُلَّ حماس ، حتى ليذهب به الحماس والغضب إلى قوله :
يا غيرةَ الله اهتفي
بحميَّة الدين المنيعة
وضبا انتقامك جرَّدي
لطلا ذوي البغي التليعة
ودعي جنود الله تملأ
هذه الأرض الوسيعة
واستأصلي حتى الرضيع
لآل حربٍ والرضيعة (45)
ومن الباحثين من رأى في رثاء السيد حيدر الحلي أدباً " زاخراً بالثورة على
الاستبداد " (46) ورأى في رثاء السيد حيدر الحلي للحسين ( ع ) " رثاء إنسان موتور حساس يرى حقوقه مهدورة وكرامته جريحة " (47) أي إن الشاعر ينطلق من عقيدة مذهبية راسخة فيما يقول ، ومنهم مَن لا يرى كذلك ، فالسيد حيدر الحلي يمدح الحكام العثمانيين السُّنَّة والعوائل السُّنِّيَّة المشهورة في بغداد والبصرة (48) .
والسيَّد حيدر الحلي يريد أن يدرك الثار من آل أمية ويتجاهل أنهم عظام في بطون التراب (49) . مَّما يعني أن المسألة مجرَّد كلام فالشاعر يقول في إحدى مراثيه للإمام الحسين(ع):
مالي أسالمُ قوماً عندهم تِرَتي
لا سالمتني يدُ الأيام إنْ سلموا (50)
" ولكن الشاعر مات ولم يحمل سيفاً ولم يَقفْ في معركة " (51)، ولكن الشاعر ، أيضاً ، غير مطالب بأن يفعل كُلَّ ما يقوله ، فقد وصف القرآن الكريم الشعراء بأنهم " يقولون ما لا يفعلون " (52) .
ومهما يكن من أمر ، فإن السيد حيدر الحلي لم يدعُ أهل زمانه أو نفسه مباشرة للثورة ولكنه دعا الإمام الحجة المنتظر ( عج ) للظهور والقيام بالثورة ، والشاعر أيضاً ينتظر الثورة وكأنّهُ يحلم بها دون أن يسعى إلى تحقيقها ، فهو في هذا كأستاذه ( الشريف الرضي ) ، إذ
يقول :
متى أراني ودرعي غير محصبةٍ
أجرُّ رمحي ، وسيفي غير مقروبِ (53)
فالشريف الرضي يطرح على نفسه سؤال " ثائر حالم " (54) ولذلك فالشريف الرضي – وبعده السيد حيدر الحلي – " لم يخرج عن حدود التصورات للثورة ، التي هي عنده رد نفسي عنيف على ما حوله ، ومَن حوله " (55) .
الحماسة
الحماسة : " تعني القوة والشدة والشجاعة ، والحماسة في الشعر هي التغني بالصفات التي تدلُّ على الشجاعة والقوة والاستهانة بالصعب من الأمور والعسير من المخاطر وخوض غمرات القتال ووصف ما يدورُ في الحرب من كَرًّ وفرَّ وجرحى وقتلى ودعوة للأخذ بالثأر وما إلى ذلك " (56) .
وللسيد حيدر الحلي بابٌ من الحماسة في ديوانه ، منها قوله متحمَّساً :
سنامُ علائيَ لم يُقرَعِ
وهضبة مجديَ لم تُطلَعِ
فقل لرجالٍ سَعَتْ جهدها
لتدرك فوق السُّهى موضعي
ولو أنَّ للشمس أحسابها
حياءً من الخزي لم تطلَعِ
قفي حيث أوقفك العجز أو
فطيري لأمِّ السَّما أو قعي
فلست بحائزةٍ سعيَ مَنْ
لهُ حوزةُ الشرف الأرفَعِ
فنحنُ بنو هاشمٍ لا نزال
لنا الصدرُ في الجمع والمجمعِ
ومن عزميَ البيضُ مطبوعةٌ
ولولا مضائيَ لم تقطع (57)
فالشاعر ، هنا ، يمزج بين الحماسة والفخر الذاتي و " هو ما دار حولَ الشاعر في نفسه وفي آبائهِ وأجداده " (58) .
ولا تقتصر الحماسة والفخر عند السيد حيدر الحلي على باب الحماسة في ديوانه فقط وإنما هي مبثوثة في قصائد رثاء الإمام الحسين عليه السلام أيضاً ، كقوله :
إنْ لم أقفْ حيث جيش الموت يزدحمُ
فلا مشَتْ بيَ في طرق العلا قَدَمُ
لا بدَّ أن أتداوى بالقنا فلقد
صبرت حتى فؤادي كلُّهُ المُ
عندي من العزم سرٌّ لا أبوح به
حتَّى تبوحَ به الهنديَّةُ الخُذُمُ (59)
إذ إن السيد حيدر الحلي يخلط الرثاء بالفخر والحماسة ، وهذا ما عدَّه بعض الباحثين ظاهرة غريبة في حَدّ ذاتها " لأن الرثاء ليسَ ، في الواقع ، سوى تفجُّع وانهيار ، وهو
لا يُسيغ الفخر والعتوَّ إطلاقاً " (60) . ولكن الموقف – هنا ومع السيد حيدر الحلي – يختلف إذْ إن الشاعر ، وكثيراً من أقرانه ، يقفون موقف المطالبين بالثأر الحاضين على الانتقام والحاثين على الثورة لذلك يُقدَّمون مراثيهم أو يمزجونها بالحماسة والفخر .
الغزل
الغزل : " أحد فنون الشعر وأغراضه " (61) وهو " بث اللوعة والشكوى من الحب وما يفعله في النفس " (62) وللسيد حيدر الحلي باب من الغزل في ديوانه ، كقوله متغزلاً :
خطرتْ في رداء حُسنٍ قشيبِ
تتثنَّى كغصنِ بانٍ رطيبِ
خلتُ لمَّا تفاوَح المسكُ منها
فُضَّ في رحلنا لَطيمة طيبِ
وتراني إذا رشفت لَماها
لم أخْلهُ إلاَّ جنا يعسوبِ
فاعتنقنا شوقاً وبتنا نشاوى
من كؤوس الكرى بغير رقيبِ
لا تلمني يا صاحبي في هواها
لَعِبَ الشوَقُ في فؤادي الطروبِ (63)
وللسيد حيدر الحلي ( غزل بالمذكر ) كقوله :
وأغيدَ منسوب إلى العُرْب لاحَ لي
على خدَّه خالٌ إلى الزنجِ يُنسَبُ
وما نظرتْ عيناي كالخال مبتلى
مقيماً على نارٍ من الخدِّ تلهبُ
فتلدغه أفعى من الجعد تارةً
وتلسبُهُ طوراً من الصدغ عقربُ (64)
وللسيد حيدر الحلي مقدَّمة غزلية في إحدى مراثيه للإمام الحسين عليه السلام مطلعها:
يا دارَ جائلة الوشاح
حيَّتْكِ نافحةُ الرياح (65)
إذ " العادة أن تقتصر المرثَية على الرثاء وحده ولا يُبتدأ فيها بنسيب " (66) . فالمراثي " لا تشتمل إلاّ على الرثاء دون سواه من الموضوعات " (67) .
الهجاء
الهجاء : " أحد أغراض الشعر ، وهو ضدّ المديح ، أي أنه ذكر المساوئ كما أن المديح ذكر المحاسن " (68) و " طريق الهجاء أيضاً يقصد فيه ما يُعلم أو يُقدَّر أنَّ المهجو يجزع من ذكره ويتألم من سمعه مَّمِا لهُ به عُلقة " (69) .
وللسيد حيدر الحلي القليل من مقطوعات الهجاء ، كقوله هاجياً :
أُكرِّرُ الطرْف لا أرى أبداً
إلاَّ غبيَّاً أنّى تلفتُّ
من كُلَّ مَن ذقنه ( كعانته )
والفم منهُ كأنه أستُ
ومعجباً كلُّ مشيه مَرَحٌ
مسْرفاً كلُّ أكْله سُحْتُ (70)
وكقوله هاجياً أهل زمانه :
ما أكثر الناس لولا أنَّهم بقرٌ
تأتي المثالبُ أفواجاً إذا ذُكروا
لو شامَ آدم بعضاً من فضائحهم
لما أحبَّ لهُ أن يُنسب البشرُ (71)
وفي باب ( العتاب ) نرى أو نشم رائحة الهجاء الحادة النفاذة ، كقول الشاعر في عتاب العلامة السيد ميرزا صالح القزويني خاتماً العتاب بهذا البيت :
أنت البغاثُ لمعشرٍ
فعلامَ صرتَ عليَّ صقرا ؟! (72)
وعلى أي حال ، فإن السيد حيدر الحلي لم يُخلق ( هجَّاءً ) " وإنما خُلق مدَّاحاً " أوَّلاً
و " رثَّاءً نوَّاحاً " ثانياً .
الفنون
• التخاميس
• الموشح
• التأريخ الشعري
التخاميس
التخميس : هو " إضافة ثلاثة اشطر على بيت لشاعر آخر " (73) وللسيد حيدر الحلي العديد من التخاميس لقصائد كاملة ، كقوله مخمِّساً قصيدة عمه السيد مهدي السيد داود في المطلع :
إِذا عَنَّ لي برقٌ يضيء على البعدِ
نزتْ كبدي من شدَّة الشوق والوجد
وناديتُ معتلَّ النسيم بلا رُشْدِ
" نسيم الصبا استنشقتُ منك شذا الندِّ
فهل سرت مجتازاً على دمنتي ( هند ) ؟ " (74)
وقد يُخمِّس السيد حيدر الحلي بيتين فقط لشاعرٍ آخر بناءً على سؤال أو التماس كما سأله الشاعر الشهير ، في عصره ، عبد الباقي العمري تخميس هذين البيتين للبوصيري في مدح الرسول ( ص ) :
كيف ترقى رقيَّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاولتها سماءُ
لم يُساووك في علاك وقدحا
لَ سنا منك دونهم وسناءُ
فقال السيد حيدر الحلي مُخمِّساً :
ما لحيث انتهى بك الإسراءُ
لمهبِّ العشر العقول ارتقاءُ
وإذا لم يكن إليك انتهاء
" كيف ترقى رُقيَّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاولتها سماءُ "
جُزتَ إذ فُتَّحتْ لك الحجبُ فتحا
لعلاً دونه على الرسل تُمحى
فلهم لو غدا ذُرى العرش سطحا
" لم يُساووك في علاك وقدحا
لسناً منك دونهم وسناءُ " (75)
والملاحظ في تخاميس السيد حيدر الحلي أنها تنظم في غرضي " المدح " (76) أو
" الاخوانيات " (77) فضلاً عن خلوِّها من التجربة الفنية الصادقة والباعث الذاتي إِذ ينظم السيد حيدر بعضاً من هذه التخاميس استجابةً لطلب من الآخرين وهذا يعني أنَّه يُكلَّف بذلك لذلك فإِنه - بالضرورة المنطقية والفنية – يتكلَّف النظم .
الموشح :
الموشح " كلام منظوم على وزن مخصوص " (78) وبدء ظهور الموشحات مسألة مختلف فيها لا تزال تتناولها الأقلام (79) ولكن الأكثر من الباحثين يرى أن هذا الفن هو أندلسي انتقل " إلى المشرق من المغرب ، مخالفاً بذلك ما جرت به العادة من ظهور الفنون الجديدة في المشرق وانتقالها إلى المغرب " (80) وقد أختلف ، أيضاً ، فيمن ابتكر هذا الفن في جزيرة الأندلس فقد قيل أن مخترعه كان " مقدَّم بن معافر الفريري " (81) في الأندلس ، ومنهم مَن قال إن مخترع هذا الفن ومبتكره هو " ابن المعتز " (82) .
أي أن الموشح " ظهر أوَّل ما ظهر في العراق " (83) .
وللسيد حيدر الحلي خمسة موشحات (84) ، غرضها التهاني ، تبتدئ أربعة موشحات منها بالنسيب والغزل ، وواحد منها تبتدئ بـ( حمزية ) ، يقول في أحد الموشحات مبتدئاً بالغزل مهنياً العلامة الحاج محمد حسن كبة عند مجيئه من الحج :
عَرَّفتْ ناسكةً ذاتُ اللُّمى
فرنت فاتكةً في أضلعي
ولكم بالهدب راشت أسهماً
فرمت شاكلتي صبري معي
أنشقتني يوم جَمْعٍ عَرْفَها
وعلى الخيف حمتني رشفَها
كحلِ الحسنُ لسحرٍ طرفها
ما رنت للصبِّ إلاّ أقسما
ما كذا ترنو ظباء الأجرعِ
والغواني تَدَّعي السحرَ وما
هو إلاَّ تحت ذاك البُرقُع (85)
ويقول مبتدئاً بذكر ( الخمر ) ، مهنياً الحاج محمد صَالح كبة عند عودة ولديه من الحج
اجتلي الكأسَ فذي كَفُّ الصَّبا
حَدَرتْ عن مبسم الصبح اللثاما
واصطبحْها من يدي غضَّ الصبا
أغيد يجلو محيَّاه الظلاما
*************
بنتُ كرمٍ زُوِّجَتْ بابن السُحُبْ
فتحلَّتْ في لئالٍ من حَبَبْ
مذ جلاها الشَّرْبُ في نادي الطَرَبْ
ضحكت في الكأس حتَّى قَطَّبا
غرِّقوا بالراح كسرى يا نُدامى
هي نارٌ في إناءٍ من بَرَدْ
عجباً ذابت به وهو جَمَدْ
أبداً تُحرق نمرودَ الكَمَدْ
وإذا منها الخليل اقتربا
غودِرتْ برداً عليه وسلاما
فاحتسى أُعذب من ماء الربى
خمرةً أطيب من نشر الخزامى (86)
ويعدُّ السيد حيدر الحلي من أشهر وشَّاحي الحلة في القرن التاسع عشر الميلادي (87) .
التاريخ الشعري
" هو أنّ ينظم الشاعر في آخر أبياته كلمات إذا حُسبت حروفها بحساب الجمَّل اجتمعت منها سنوات التاريخ المقصود من ولادة ، أو زواج ، أو وفاة ، أو سفر ، أو بناء مسجد ، أو تعيين في وظيفة ، أو عزل ، أو انتصار .... الخ " (88) .
والتاريخ الشعري يكون بحساب الجُمَّل ، إذ يكون لكل حرف من الحروف الأبجدية رقم كما في الجدول الآتي :
أ = 1 ي = 10 ق = 100
ب = 2 ك = 20 ر = 200
ج = 3 ل = 30 ش = 300
د = 4 م = 40 ت = 400
ﻫ = 5 ن = 50 ث = 500
و = 6 س = 60 خ = 600
ز = 7 ع = 70 ذ = 700
ح = 8 ف = 80 ض = 800
ط = 9 ص 90 ظ = 900
غ = 1000
ولهذا الفن أصول وقواعد وشروط ، أهمّها :
1- أن تذكر الكلمة أو الجملة المراد منها حساب عام الحادث المؤرخ بعد لفظة مشتقة من مادة ( التاريخ ) مثل يؤرِّخ ( الفعل المضارع ) أرِّخ ( الفعل الأمر ) أو مؤرِّخاً ( الحال ) أو غيرها .
2- أن لا يكون التاريخ الواحد في بيتين ، بل يكون في بيت واحد وفي عجز البيت غالباً ويوضع بين قوسين .
3- يجب أن يكون الحساب على موجب قاعدة ( ما يُكتب يُحسب ) بمعنى أنَّه لا تُحسب جملة التاريخ بمقتضى تلفظها ومنطوقها ، بل على موجب كتابتها ، فمثلاً الحرف المشدَّد لا يُحسب حرفين بل حرفاً واحداً ، لأنَّه كُتب حَرفاً واحداً ، ولا اعتبار بتشديده ، وكذلك همزة الوصل فإنَّها وإن لم تلفظ فإنَّها تُحسب لأنَّها تكتب ، ومثلها واو عمرو ، وواو الصلوة والزكوة ، وعلى هذا القياس يحسب ألف موسى وعيسى ويخشى وعلى بعشرة لأنّها تكتب بالياء كما أنَّ الألف المتلفَّظ بها بعد لام أولئك وبعدها هذا ولام الله لا تُحسب لأنها لم تكتب " (89) .
4- يستحب أن يذكر في جملة التاريخ الشعري اقتباساً من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف أو أشعار العرب المشهورة .
ولقد " شاع نظم التاريخ الشعري في العراق في القرون الأخيرة " (90) .
ومع شيوعهِ " في العراق في القرن التاسع عشر ، فإنه كان في الحلة أكثر شيوعاً ، والشعراء به أكثر اهتماماً ، ويندر أن نجد شاعراً حليَّاً لم ينظم فيه ، وذلك بسبب الفراغ الذي كان يُعاني منه الشعراء ، وعدم وجود ما يُجدي عمله لديهم ، وقوَّة العلامات الاجتماعية بينهم ، ثُمَّ إقبال الناس عليه ورواجه لديهم وشغفهم به ، حتى صاروا يؤرِّخون كُلَّ أمرٍ من أمورهم كبيرها وصغيرها " (91) . وللسيد حيدر الحلي باب ( التاريخيات ) كقوله مؤرخاً عام ولادة الحاج محمد صالح كبة في سنة 1201 هـ :
أتى اليوم حاتم أهل النهى
على أنَّهُ للندى فاتحُ
أغرُّ غدا السَعْدُ لمَّا استهلَّ
وَهْوَ لغرَّته ماسحُ
وهنَّا به المجدُ وُفَّادَهُ
وبشَّرَها الشَرَفُ الواضحَ
وقالوا جميعاً وقد أرَّخوا :
( نرى وُلِدَ الخلف الصالح ) (92)
وجليّ أن هذه الأبيات قد قُصِدَ بها المديح والتأريخ الشعري معاً ، فهي – إذن – تدخل في باب المديح الواسع المتعدد المنافذ عند السيد حيدر الحلي .
الخاتمة
السيد حيدر الحلي شاعر شهير من شعراء القرن التاسع عشر ، طرق أبواب الشعر جميعها لاسيما باب المديح وباب الرثاء فكان شاعراً مدَّاحاً أوَّلاً وشاعراً نَّواحاً ثانياً ، وقد اشتُهِر بغرض الرثاء لاسيما رثاء الإمام الحسين ( ع ) وحصل على إكبار وإعجاب معاصريه ومُجايليه وقد مزج في رثائه بين الحماسة والفخر .
أمّا فنون شعره فكانت ( الموشح ) و ( التخاميس ) و ( التاريخ الشعري ) والسيد حيدر الحلي لم يتفوَّق في هذه الفنون ولم تقم شهرته عليها بل قامت شهرته على الرثاء ، كما قدَّمنا ، فالرثاء عند السيد حيدر الحلي هُوَ الدعامة الأساسية والقاعدة الرئيسية التي قامت عليها شهرته لأنه أجاد في هذا الفن إجادة كبيرة فلو حذفنا باب الرثاء من دِيوان السيد حيدر الحلي لما استحق الديوان أن يقلبَهُ أحد . فالرثاء هو وحده ما يستحق القراءة والدراسة في ديوان السيد حيدر الحلي!.