من كتاب تحف العقول عن ال الرسول
وصية امير المؤمنين علي لزلده السبط الاكبر الحسن
عليهما السلام
من الوالد الفان المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ،
الساكن مساكن الموتى ، الظاعن عنها إليهم غدا إلى المولود المؤمل ما لا يدرك السالك
سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ورهينة الأيام ورمية المصائب وعبد الدنيا
وتاجر الغرور وغريم المنايا وأسير الموت وحليف الهموم وقرين الأحزان ونصب
الآفات وصريع الشهوات وخليفة الأموات - أما بعد - فإن فيما تبينت من
إدبار الدنيا عني وجموح الدهر علي وإقبال الآخرة إلي ما يزعني عن ذكر من
سواي والاهتمام بما ورائي غير أنه حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي
فصدفني رأيي وصرفني هواي وصرح لي محض أمري فأفضى بي إلى جد لا يكون
فيه لعب وصدق لا يشوبه كذب و وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن
شيئا لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من
أمر نفسي فكتبت إليك كتابي هذا مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت.
فإني أوصيك بتقوى الله أي بني ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره والاعتصام
بحبله وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن [ أنت ] أخدت به .
أحي قلبك بالموعظة وموته بالزهد وقوه باليقين وذلله بالموت وقرره
بالفناء وبصره فجائع الدنيا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام
وأعرض عليه أخبار الماضين وذكره بما أصاب من كان قبله وسر في بلادهم وآثارهم
وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعما انتقلوا فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة وحلوا
دار الغربة وناد في ديارهم : أيتها الديار الخالية أين أهلك ثم قف على قبورهم فقل :
أيتها الأجساد البالية والأعضاء المتفرقة كيف وجدتم الدار التي أنتم بها ، أي بني
وكأنك عن قلى قد صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك ودع
القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لا تكلف وأمسك عن طريق إذا خفت ضلاله فإن
الكف عن حيرة الضلالة خير من ركوب الأهوال ، وأمر بالمعروف تكن من أهله
وأنكر المنكر بلسانك ويدك وباين من فعله بجهدك وجاهد في الله حق جهاده ولا
تأخذك في الله لومة لائم وخض الغمرات إلى الحق حيث كان وتفقه في الدين
وعود نفسك التصبر وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها
إلى كهف حريز ومانع عزيز وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان
وأكثر الاستخارة وتفهم وصيتي ولا تذهبن عنها صفحا ، فإن خير القول ما نفع
واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ولا ينتفع بعلم حين لا يقال به .
أي بني إني لما رأيتك قد بلغت سنا ورأيتني أزداد وهنا بادرت بوصيتي إياك
خصالا منهن أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي أو أنقص في رأيي
كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا فتكون
كالصعب النفور ، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها من شئ قبلته
فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الامر
ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت
من علاج التجربة فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه واستبان لك منه ما ربما أظلم
علينا فيه.
أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم و
فكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى إلى
من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه
من ضره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك
مجهولة ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من
أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل بين ذي النقية والنية وأن أبدأك بتعليم كتاب الله
وتأويله وشرائع الاسلام وأحكامه وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ثم
أشفقت أن يلبسك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم مثل الذي لبسهم وكان إحكام ذلك
لك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه
الهلكة ورجوت أن يوفقك الله فيه لرشدك وأن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي
هذه واحكم مع ذلك .
أي بني إن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوي الله والاقتصار على ما
افترض عليك والاخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل ملتك
فإنهم لم يدعوا أن ينظروا لأنفسهم كما أنت ناظر وفكروا كما أنت مفكر ، ثم
ردهم آخر ذلك إلى الاخذ بما عرفوا والامساك عما لم يكلفوا ، فإن أبت نفسك
أن تقبل ذلك دون أن تعلم ما كانوا علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم لا بتورط
الشبهات وعلق الخصومات ، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك عليه والرغبة
إليه في توفيقك وترك كل شائبة أدخلت عليك شبهة وأسلمتك إلى ضلالة وإذا أنت
أيقنت أن قد صفا [ لك ] قلبك فخشع وتم رأيك فاجتمع وكان همك في ذلك هما واحدا
فانظر فيما فسرت لك وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك من فراغ فكرك
ونظرك فاعلم أنك إنما تخبط خبط العشواء وليس طالب الدين من خبط ولا خلط
والامساك عند ذلك أمثل .
وإن أول ما أبدأ به من ذلك وآخره أني أحمد إليك إلهي وإلهك وإله
آبائك الأولين والآخرين ورب من في السماوات والأرضين بما هو أهله و كما هو
أهله وكما يحب وينبغي ونسأله أن يصلي عنا على نبينا صلى الله عليه وآله وعلى أهل بيته وعلى
أنبياء الله ورسله بصلاة جميع من صلى عليه من خلقه وأن يتم نعمه علينا فيما وفقنا
له من مسألته بالإجابة لنا فإن بنعمته تتم الصالحات .
فتفهم أي بني وصيتي واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة وأن الخالق هو المميت
وأن المفني هو المعيد وأن المبتلي هو المعافي وأن الدنيا لم تكن لتستقيم إلا على ما خلقها
الله تبارك وتعالى عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد أو ما شاء مما لا نعلم ، فإن
أشكل عليك شئ من ذلك فاحمله على جهالتك به فإنك أول ما خلقت خلقت جاهلا
ثم علمت وما أكثر ما تجهل من الامر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره
بعد ذلك ، فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك وليكن له تعمدك وإليه رغبتك
ومنه شفقتك . واعلم يا بني أن أحدا لم ينبئ عن الله تبارك وتعالى كما أنبأ عنه نبينا
صلى الله عليه وآله فارض به رائدا وإلى النجاة قائدا فإني لم آلك نصيحة وإنك
لم تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ ] نظري لك . واعلم يا بني أنه
لو كان لربك شريك لاتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت صفته
وفعاله ولكنه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضاده في ذلك أحد ولا يحاجه وأنه
خالق كل شئ وأنه أجل من أن يثبت لربوبيته بالإحاطة قلب أو بصر وإذا أنت عرفت
ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك في صغر خطرك وقلة مقدرتك وعظم حاجتك إليه أن يفعل
مثله في طلب طاعته والرهبة له والشفقة من سخطه ، فإنه لم يأمرك إلا بحسن ولم
ينهك إلا عن قبيح .
أي بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها بأهلها
وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها فيها . وضربت لك فيهما الأمثال ، إنما مثل من
أبصر الدنيا كمثل قوم سفر نبابهم منزل جدب فأموا منزلا خصيباوجنابا
مريعافاحتملوا وعثاء الطريق وفراق الصديق وخشونة السفر في الطعام
والمنام ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشئ من ذلك ألما ولا
يرون نفقة مغرما ولا شيئا أحب إليهم مما قربهم منزلهم ، ومثل من اغتر بها كمثل
قوم كانوا بمنزل خصب فنبابهم إلى منزل جدب فليس شئ أكره إليهم ولا أهول لديهم
من مفارقة ما هم فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه . وقرعتك بأنواع الجهالات
لئلا تعد نفسك عالما ، فإن ورد عليك شئ تعرفه أكبرت ذلك فإن العالم من عرف
أن ما يعلم فيما لا يعلم قليل ، فعد نفسه بذلك جاهلا فازداد بما عرف من ذلك في
طلب العلم اجتهادا ، فما يزال للعلم طالبا وفيه راغبا وله مستفيدا ولأهله خاشعا مهتما
وللصمت لازما وللخطأ حاذر ومنه مستحييا ، وإن ورد عليه مالا يعرف لم ينكر ذلك لما
قرر به نفسه من الجهالة ، وإن الجاهل من عد نفسه بما جهل من معرفة العلم عالما وبرأيه
مكتفيا فما يزال للعلماء مباعدا وعليهم زاريا ولمن خالفه مخطئا ولما لم يعرف من
الأمور مضللا ، فإذا ورد عليه من الأمور ما لم يعرفه أنكره وكذب به وقال بجهالته :
ما اعرف هذا وما أراه كان وما أظن أن يكون وأنى كان ؟ وذلك لثقته برأيه وقلة معرفته
بجهالته ، فما ينفك بما يرى مما يلتبس عليه رأيه مما لا يعرف للجهل مستفيدا وللحق
منكرا وفي الجهالة متحيرا وعن طلب العلم مستكبرا .
أي بني تفهم وصيتي واجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب
لغيرك ما تحب لنفسك ، وأكره له ما تكره لنفسك ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم
وأحسن كما تحب أن يحسن إليك . واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من
الناس لك ما ترضى به لهم منك ولا تقل بما لا تعلم ، بل لا تقل كلما تعلم ، ولا تقل مالا
تحب أن يقال لك .
واعلم أن الاعجاب ضد الصواب وآفة الألباب فإذا أنت هديت لقصدك فكن
أخشع ما تكون لربك .
واعلم أن أمامك طريقا ذا مشقة بعيدة وأهوال شديدة وأنه لا غنى بك فيه
عن حسن الارتياد وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر ، فلا تحملن على ظهرك
فوق بلاغك ، فيكون ثقلا ووبالا عليك وإذا وجدت من أهل الحاجة من يحمل لك
زادك فيوافيك به حيث تحتاج إليه فاغتنمه ، واغتنم من استقرضك في حال غناك و
اجعل وقد قضائك في يوم عسرتك.
واعلم أن أمامك عقبة كؤودا لا محالة مهبطا بك على جنة أو على نار ، المخف
فيها أحسن حالا من المثقل فارتد لنفسك قبل نزولك واعلم أن الذي بيده
ملكوت خزائن الدنيا والآخرة قد أذن بدعائك وتكفل بإجابتك وأمرك أن تسأله
يتبع لطفا ...
وصية امير المؤمنين علي لزلده السبط الاكبر الحسن
عليهما السلام
من الوالد الفان المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ،
الساكن مساكن الموتى ، الظاعن عنها إليهم غدا إلى المولود المؤمل ما لا يدرك السالك
سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ورهينة الأيام ورمية المصائب وعبد الدنيا
وتاجر الغرور وغريم المنايا وأسير الموت وحليف الهموم وقرين الأحزان ونصب
الآفات وصريع الشهوات وخليفة الأموات - أما بعد - فإن فيما تبينت من
إدبار الدنيا عني وجموح الدهر علي وإقبال الآخرة إلي ما يزعني عن ذكر من
سواي والاهتمام بما ورائي غير أنه حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي
فصدفني رأيي وصرفني هواي وصرح لي محض أمري فأفضى بي إلى جد لا يكون
فيه لعب وصدق لا يشوبه كذب و وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن
شيئا لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من
أمر نفسي فكتبت إليك كتابي هذا مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت.
فإني أوصيك بتقوى الله أي بني ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره والاعتصام
بحبله وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن [ أنت ] أخدت به .
أحي قلبك بالموعظة وموته بالزهد وقوه باليقين وذلله بالموت وقرره
بالفناء وبصره فجائع الدنيا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام
وأعرض عليه أخبار الماضين وذكره بما أصاب من كان قبله وسر في بلادهم وآثارهم
وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعما انتقلوا فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة وحلوا
دار الغربة وناد في ديارهم : أيتها الديار الخالية أين أهلك ثم قف على قبورهم فقل :
أيتها الأجساد البالية والأعضاء المتفرقة كيف وجدتم الدار التي أنتم بها ، أي بني
وكأنك عن قلى قد صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك ودع
القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لا تكلف وأمسك عن طريق إذا خفت ضلاله فإن
الكف عن حيرة الضلالة خير من ركوب الأهوال ، وأمر بالمعروف تكن من أهله
وأنكر المنكر بلسانك ويدك وباين من فعله بجهدك وجاهد في الله حق جهاده ولا
تأخذك في الله لومة لائم وخض الغمرات إلى الحق حيث كان وتفقه في الدين
وعود نفسك التصبر وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك فإنك تلجئها
إلى كهف حريز ومانع عزيز وأخلص في المسألة لربك فإن بيده العطاء والحرمان
وأكثر الاستخارة وتفهم وصيتي ولا تذهبن عنها صفحا ، فإن خير القول ما نفع
واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ولا ينتفع بعلم حين لا يقال به .
أي بني إني لما رأيتك قد بلغت سنا ورأيتني أزداد وهنا بادرت بوصيتي إياك
خصالا منهن أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي أو أنقص في رأيي
كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا فتكون
كالصعب النفور ، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها من شئ قبلته
فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الامر
ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت
من علاج التجربة فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه واستبان لك منه ما ربما أظلم
علينا فيه.
أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم و
فكرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى إلى
من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه
من ضره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله وصرفت عنك
مجهولة ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من
أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل بين ذي النقية والنية وأن أبدأك بتعليم كتاب الله
وتأويله وشرائع الاسلام وأحكامه وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ثم
أشفقت أن يلبسك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم مثل الذي لبسهم وكان إحكام ذلك
لك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه
الهلكة ورجوت أن يوفقك الله فيه لرشدك وأن يهديك لقصدك فعهدت إليك وصيتي
هذه واحكم مع ذلك .
أي بني إن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوي الله والاقتصار على ما
افترض عليك والاخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل ملتك
فإنهم لم يدعوا أن ينظروا لأنفسهم كما أنت ناظر وفكروا كما أنت مفكر ، ثم
ردهم آخر ذلك إلى الاخذ بما عرفوا والامساك عما لم يكلفوا ، فإن أبت نفسك
أن تقبل ذلك دون أن تعلم ما كانوا علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم لا بتورط
الشبهات وعلق الخصومات ، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك عليه والرغبة
إليه في توفيقك وترك كل شائبة أدخلت عليك شبهة وأسلمتك إلى ضلالة وإذا أنت
أيقنت أن قد صفا [ لك ] قلبك فخشع وتم رأيك فاجتمع وكان همك في ذلك هما واحدا
فانظر فيما فسرت لك وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك من فراغ فكرك
ونظرك فاعلم أنك إنما تخبط خبط العشواء وليس طالب الدين من خبط ولا خلط
والامساك عند ذلك أمثل .
وإن أول ما أبدأ به من ذلك وآخره أني أحمد إليك إلهي وإلهك وإله
آبائك الأولين والآخرين ورب من في السماوات والأرضين بما هو أهله و كما هو
أهله وكما يحب وينبغي ونسأله أن يصلي عنا على نبينا صلى الله عليه وآله وعلى أهل بيته وعلى
أنبياء الله ورسله بصلاة جميع من صلى عليه من خلقه وأن يتم نعمه علينا فيما وفقنا
له من مسألته بالإجابة لنا فإن بنعمته تتم الصالحات .
فتفهم أي بني وصيتي واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة وأن الخالق هو المميت
وأن المفني هو المعيد وأن المبتلي هو المعافي وأن الدنيا لم تكن لتستقيم إلا على ما خلقها
الله تبارك وتعالى عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد أو ما شاء مما لا نعلم ، فإن
أشكل عليك شئ من ذلك فاحمله على جهالتك به فإنك أول ما خلقت خلقت جاهلا
ثم علمت وما أكثر ما تجهل من الامر ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره
بعد ذلك ، فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسواك وليكن له تعمدك وإليه رغبتك
ومنه شفقتك . واعلم يا بني أن أحدا لم ينبئ عن الله تبارك وتعالى كما أنبأ عنه نبينا
صلى الله عليه وآله فارض به رائدا وإلى النجاة قائدا فإني لم آلك نصيحة وإنك
لم تبلغ في النظر لنفسك وإن اجتهدت مبلغ ] نظري لك . واعلم يا بني أنه
لو كان لربك شريك لاتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت صفته
وفعاله ولكنه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضاده في ذلك أحد ولا يحاجه وأنه
خالق كل شئ وأنه أجل من أن يثبت لربوبيته بالإحاطة قلب أو بصر وإذا أنت عرفت
ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك في صغر خطرك وقلة مقدرتك وعظم حاجتك إليه أن يفعل
مثله في طلب طاعته والرهبة له والشفقة من سخطه ، فإنه لم يأمرك إلا بحسن ولم
ينهك إلا عن قبيح .
أي بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها بأهلها
وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها فيها . وضربت لك فيهما الأمثال ، إنما مثل من
أبصر الدنيا كمثل قوم سفر نبابهم منزل جدب فأموا منزلا خصيباوجنابا
مريعافاحتملوا وعثاء الطريق وفراق الصديق وخشونة السفر في الطعام
والمنام ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشئ من ذلك ألما ولا
يرون نفقة مغرما ولا شيئا أحب إليهم مما قربهم منزلهم ، ومثل من اغتر بها كمثل
قوم كانوا بمنزل خصب فنبابهم إلى منزل جدب فليس شئ أكره إليهم ولا أهول لديهم
من مفارقة ما هم فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه . وقرعتك بأنواع الجهالات
لئلا تعد نفسك عالما ، فإن ورد عليك شئ تعرفه أكبرت ذلك فإن العالم من عرف
أن ما يعلم فيما لا يعلم قليل ، فعد نفسه بذلك جاهلا فازداد بما عرف من ذلك في
طلب العلم اجتهادا ، فما يزال للعلم طالبا وفيه راغبا وله مستفيدا ولأهله خاشعا مهتما
وللصمت لازما وللخطأ حاذر ومنه مستحييا ، وإن ورد عليه مالا يعرف لم ينكر ذلك لما
قرر به نفسه من الجهالة ، وإن الجاهل من عد نفسه بما جهل من معرفة العلم عالما وبرأيه
مكتفيا فما يزال للعلماء مباعدا وعليهم زاريا ولمن خالفه مخطئا ولما لم يعرف من
الأمور مضللا ، فإذا ورد عليه من الأمور ما لم يعرفه أنكره وكذب به وقال بجهالته :
ما اعرف هذا وما أراه كان وما أظن أن يكون وأنى كان ؟ وذلك لثقته برأيه وقلة معرفته
بجهالته ، فما ينفك بما يرى مما يلتبس عليه رأيه مما لا يعرف للجهل مستفيدا وللحق
منكرا وفي الجهالة متحيرا وعن طلب العلم مستكبرا .
أي بني تفهم وصيتي واجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب
لغيرك ما تحب لنفسك ، وأكره له ما تكره لنفسك ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم
وأحسن كما تحب أن يحسن إليك . واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من
الناس لك ما ترضى به لهم منك ولا تقل بما لا تعلم ، بل لا تقل كلما تعلم ، ولا تقل مالا
تحب أن يقال لك .
واعلم أن الاعجاب ضد الصواب وآفة الألباب فإذا أنت هديت لقصدك فكن
أخشع ما تكون لربك .
واعلم أن أمامك طريقا ذا مشقة بعيدة وأهوال شديدة وأنه لا غنى بك فيه
عن حسن الارتياد وقدر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر ، فلا تحملن على ظهرك
فوق بلاغك ، فيكون ثقلا ووبالا عليك وإذا وجدت من أهل الحاجة من يحمل لك
زادك فيوافيك به حيث تحتاج إليه فاغتنمه ، واغتنم من استقرضك في حال غناك و
اجعل وقد قضائك في يوم عسرتك.
واعلم أن أمامك عقبة كؤودا لا محالة مهبطا بك على جنة أو على نار ، المخف
فيها أحسن حالا من المثقل فارتد لنفسك قبل نزولك واعلم أن الذي بيده
ملكوت خزائن الدنيا والآخرة قد أذن بدعائك وتكفل بإجابتك وأمرك أن تسأله
يتبع لطفا ...