مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع ابن أبي العوجاء
في التوحيد وحدوث العالم
للإمام الصادق ( عليه السلام ) مناظرات جَمَّة مع ابن أبي العوجاء ، وكان بعضها في التوحيد ، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبد الكريم من الملاحدة المشهورين .
واعترف بدسِّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكفى في معرفة حاله هذه المناظرات ، وقد قُتِل على الإلحاد كما قُتِل صاحبه ابن المقفَّع .
فمن تلك المناظرات أنه كان يوماً هو وعبد الله بن المقفَّع في المسجد الحرام ، فقال ابن المقفَّع : ترون هذا الخلق - وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانيَّة إِلا ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) - ، وأما الباقون فرعاع وبهائم .
فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء .
فقال : لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم .
فقال ابن أبي العوجاء : لا بدَّ من اختبار ما قلت فيه منه .
فقال له ابن المقفَّع : لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك .
فقال : ليس ذا رأيك ، لكن تخاف أن يضعف رأيُك عندي في إِحلالك إِيَّاه هذا المحلِّ الذي وصفتَ .
فقال ابن المقفَّع : أمَّا إذا توسَّمت عليَّ فقم إليه وتحفَّظ من الزَّلَل ، ولا تُثْنِ عنانك إلى استرسالٍ فيسلمك إلى عقال ، وسمة ما لك وعليك .
فقام ابن أبي العوجاء ، فلمَّا رجع قال : ويلَكَ يا ابن المقفَّع ، ما هذا ببشر ، وإِن كان في الدنيا روحاني يتجسَّد إذا شاء ظاهراً ويتروَّح إذا شاء باطناً فهو هذا .
فقال له : كيف ذلك ؟ .
فقال : جلست إليه فلمَّا لم يبْقَ عنده أحد غيري ابتدأني ، فقال :
( إِنْ يَكُن الأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ - يعني أهل الطواف - وَهُوَ عَلَى مَا يَقُولُونَ فَقَدْ سَلمُوا وَعَطَبْتُم ، وَإِنْ يَكُن الأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ فَقَد اسْتَوَيْتُمْ وَهُم ) .
فقلت : يرحمك الله وأيُّ شيء نقول وأيُّ شيء يقولون ، ما قولي وقولهم إِلا واحد ، فقال :
( وَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُكُ وَقَوْلُهُم وَاحِداً ، وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ لَهُمْ مَعَاداً وَثَوَاباً وَعِقَاباً ، وَيدِينُونَ بِأَنَّ لِلسَّمَاءِ إِلَهاً وَأنَّهَا عمْرَان ، وَأَنْتُم تَزْعمُونَ أَنَّ السَّمَاءَ خَرَابٌ لَيْسَ فِيْهَا أَحَدٌ ) .
قال : فاغتنمتها منه ، فقلت له : ما منعه إِنْ كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ، يدعوهم إلى عبادته ، حتَّى لا يختلف فيه اثنان ؟ ، لِمَ احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل ؟ ، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به ، فقال لي :
( وَيْلُكَ ، كَيْفَ احْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أَرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ ؟ ، نشوكَ وَلَمْ تَكُنْ ، وَكِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ ، وَقُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ ، وَضَعفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ ، وَسقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ ، وَصِحَّتَكَ بَعْدَ سَقَمِكَ ، وَرِضَاكَ بَعْدَ غَضَبِكَ ، وَغَضَبَكَ بَعْدَ رِضَاكَ ، وَحُزْنَكَ بَعْدَ فَرَحِكَ ، وَفَرَحَكَ بَعْدَ حُزْنِكَ ، وَحُبَّكَ بَعْدَ بُغْضِكَ ، وَبُغْضَكَ بَعْدَ حُبِّكَ ، وَعَزْمَكَ بَعْدَ إِنَابَتِكَ [ وفي نسخة : إِبائِكَ ، وفي نسخة أخرى : إِنَاءَتِكَ ، وهي : الإبطاء ] ، وإِنَابَتِكَ بَعْدَ عَزْمِكَ ، وَشَهْوَتَك بَعْدَ كَرَاهَتِكَ ، وَكَرَاهَتَكَ بَعْدَ شَهْوَتِكَ ، وَرَغْبَتَكَ بَعْدَ رَهْبَتِكَ ، وَرَهْبَتَكَ بَعْدَ رَغْبَتِكَ ، وَرَجَاءَكَ بَعْدَ يَأْسِكَ ، وَيَأْسَكَ بَعْدَ رَجَائِكَ ، وَخَاطَرَكَ لِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وَهْمِكَ ، وَغُرُوبَ [ وفي نسخة : عُزُوب ] مَا أَنْتَ مُعْتَقِدَهُ عَنْ ذِهْنِكَ ) .
وما زال يعدُّ عليَّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها ، حتَّى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه [ الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ] .
ثمَّ إنَّ ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني فَجَلَس وهو ساكت لا ينطق ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( كَأَنَّكَ جِئْتَ تُعِيدُ بَعْضَ مَا كُنَّا فِيْهِ ) ، فقال : أردتُ ذلك يا ابن رسول الله ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( مَا أَعْجَبُ هَذَا !! ، تُنْكِرُ اللهَ ، وَتَشْهَدُ أَنِّي ابْنَ رَسُولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) !! ) .
فقال : العادة تحملني على ذلك ، فقال له الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( فَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الكَلامِ ) ، قال : إِجلال لك ومهابة ، ما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلِّمين ، فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك ، قال ( عليه السلام ) :
( يَكُونُ ذَلِكَ ، وَلَكنْ أَفْتَحُ عَلَيْكَ سُؤَالاً - وأقبَلَ عليه فقال ( عليه السلام ) له - : أَمَصْنُوعٌ أَنْتَ أَمْ غَيْرُ مَصْنُوعِ ؟ ) .
فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع ، فقال له الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( فَصِفْ لِي لَوْ كُنْتَ مَصْنُوعاً كَيْفَ كُنْتَ تَكُون ؟ ) ، فبقيَ عبدُ الكريم مليّاً لا يحير جواباً ، وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل عريض ، عميق قصير ، متحرِّكٌ ساكن ، كلُّ ذلك من صفة خلقه ، فقال له الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) :
( فَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَعْلَمْ صِفَةَ الصنْعَةِ مِنْ غَيْرِهَا فَاجْعَلْ نَفْسَكَ مَصْنُوعاً لِمَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ مِمَّا يَحْدُثُ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ ) ، فقال له عبد الكريم : سألتَني عن مسألة لم يسألني أحدٌ عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها ، فقال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( هَبْكَ عَلِمْتَ أَنَّكَ لَمْ تُسْأَلْ فِيْمَا مَضَى ، فَمَا عِلْمُكَ أَنَّكَ لَمْ تُسْأَلْ فِيْمَا بَعْدُ ؟ ، عَلَى أَنَّكَ يَا عَبْدَ الكَرِيْمِ نَقَضْتَ قَوْلَكَ ، لأَنَّكَ تَزْعمُ أَنَّ الأَشْيَاءَ مِنَ الأَوَّلِ سَوَاءً ، فَكَيْفَ قَدَّمْتَ وَأَخَّرْتَ ؟ ) .
ثم قال ( عليه السلام ) :
( يَا عَبْدَ الكَرِيْمِ : أَنزِيْدُكَ وُضُوحاً ؟ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ مَعَكَ كِيْسٌ فِيْهِ جَوَاهِرٌ ، فَقَالَ لَكَ قَائِلٌ : هَلْ فِي الكِيْسِ دِيْنَارٌ ؟ ، فَنَفَيْتَ كَونَ الدِّيْنَارِ فِي الكِيْسِ ، فَقَالَ لَكَ قَائِلٌ : صِفْ لِي الدِّيْنَارُ ؟ ، وَكُنْتَ غَيْرَ عَالِمٍ بِصِفَةٍ ، هَلْ لَكَ أَنْ تَنْفِي كَوْنَ الدِّيْنَارِ فِي الكِيْسِ وَأَنْتَ لاَ تَعْلَمُ ؟ ) .
قال : لا ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( فَالْعَالَمُ أَكْبَرُ وَأَطْوَلُ وَأَعْرَضُ مِنَ الكِيْسِ ، فَلَعَلَّ فِي العَالَمِ صنْعَةً مِنْ حَيْثُ لا تَعْلَمُ ، لا تَعْلَمُ صِفَةَ الصَّنْعَةِ مِنْ غَيْرِ الصَّنْعَةِ ) .
فانقطع عبد الكريم ، وأجاب إِلى الإِسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض .
فعاد في اليوم الثالث فقال : أقلب السؤال ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( سَلْ عَمَّا شِئْتَ ) ، فقال : ما الدليل على حدوث الأجسام ؟ فقال ( عليه السلام ) :
( إِنِّي مَا وَجَدْتُ صَغِيْراً وَلاَ كَبِيراً إِلاَّ وَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِثْلُهُ صَارَ أَكْبَرَ ، وَفِي ذَلِكَ زَوَالٌ وَانْتِقَالٌ عَنِ الحَالَةِ الأُولَى ، وَلَو كَانَ قَدِيْماً مَا زَالَ وَلا حَالَ ، لأَنَّ الَّذِي يَزُولُ وَيَحُولُ يَجُوزُ أَنْ يَجُودَ وَيَبْطُلَ ، فَيَكُونَ بِوُجُودِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ دُخُولٌ فِي الحَدَثِ ، وَفِي كَونِهِ فِي الأولَى دُخُولُه فِي العَدَم ، وَلَنْ يَجْتَمِعَ صِفَةُ الأَزَلِ وَالعَدَمِ فِي شَيءٍ وَاحِدٍ ) .
فقال عبد الكريم : هَبْك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها مِن أين كان لك أن تستدلَّ على حدوثها ؟ ، فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا العَالَمِ المَوْضُوعِ ، فَلَو رَفَعْنَاهُ وَوَضَعْنَا عَالَماً آخَرَ كَانَ لاَ شَيْءَ أَدَلّ عَلَى الحَدَثِ مِنْ رَفْعِنَا إِيَّاهُ وَوَضْعِنَا غَيْرهُ ، وَلَكِنْ أَجَبْتُ مِنْ حَيْثُ قَدَّرْتُ أنَّكَ تُلْزِمُنَا وَتَقُول : إِنَّ الأَشْيَاءَ لَوْ دَامَتْ عَلَى صِغَرِهَا لَكَانَ فِي الوَهْمِ أَنَّهُ مَتَى مَا ضُمَّ شَيءٌ مِنْهُ إِلَى مِثْلِهِ كَانَ أَكْبَرُ ، وَفِي جَوَازِ التغَيُّرِ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ مِنَ القِدَمِ ، كَمَا بَانَ فِي تَغْيِيرِ دُخُولِهِ فِي الحَدَثِ لَيْسَ وَرَاءَه شَيءٌ يَا عَبْدَ الكَرِيْمِ ) ، فانقَطع وخُزِّي .
ولمَّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم ، فقال له بعض شيعته : إِنَّ ابنَ أبي العوجاء قد أسلم ، فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( هُوَ أَعْمَى مِنْ ذَلِكَ ، لاَ يُسْلِمُ ) ، فلمَّا بصر بالإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : سيِّدي ومولاي ، فقال ( عليه السلام ) له :
( مَا جَاءَ بِكَ إِلَى هَذَا المَوْضِعِ ؟ ) ، فقال : عادةُ الجسد وسُنَّةُ البلد ، ولِنبصرَ ما الناس فيه من الجنون والحَلْقِ وَرَمْيِ الحجارة ، فقال له الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( أَنْتَ بَعْدُ عَلَى عُتُوِّكَ وَضَلالِكَ يَا عَبْدَ الكَرِيْمِ ) ، فذهب يتكلم ، فقال ( عليه السلام ) له :
( لاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ ) ، ونفض رداءه من يده وقال ( عليه السلام ) :
( إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُ نَجَوْنَا وَنَجَوْتَ ، وَإِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وَهُوَ كَمَا نَقُولُ نَجَوْنَا وَهَلَكْتَ ) [ توحيد الصدوق ( طاب ثراه ) ، باب حدوث العالم ] .
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع ابن أبي العوجاء
في تبديل الجلود في النار
وناظر ابنُ أبي العوجاء الإمامَ الصادق ( عليه السلام ) يوماً في تبديل الجلود في النار ، فقال : ما تقول في هذه الآية :
( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ) [
النساء : 56 ] ، هَبْ هذه الجلود عصَتْ فعُذِّبت ، فما بالُ الغير يعذَّبُ
؟ ، قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( وَيْحَكَ ، هِيَ هِيَ وَهِي غَيْرُهَا ) ، قال : اعْقِلْني هذا القول ، فقال ( عليه السلام ) له :
( أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَهدَ إِلَى لَبْنَةٍ فَكَسَرَهَا ،
ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهَا الْمَاءَ وَجَبَلَهَا [ ليَّنها ] ، ثُمَّ رَدَّهَا
إِلَى هَيْئَتِهَا الأُوْلَى ، أَلَمْ تَكُنْ هِيَ هِيَ وَهِيَ غَيْرُهَا ؟
) ، فقال : بلى أمتع الله بك [ الاحتجاج للشيخ الطبرسي : 354 ] .
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع ابن أبي العوجاء في الخلق
دخل ابن أبي العوجاء يوماً على الإمام الصادق ( عليه السلام ) يوماً ،
فقال : أليس تزعم أن الله تعالى خالق كلِّ شيء ؟ ، فقال أبو عبد الله (
عليه السلام ) :
( بلى ) ، فقال : أنا أخلق ، فقال ( عليه السلام ) له :
( كَيْفَ تَخْلُقُ ؟ ) ، فقال : أحدث في الموضع ثمَّ ألبث عنه ، فيصير
دواباً ، فكنت أنا الذي خلقتها ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( أَلَيْسَ خَالِقُ الشَّيءِ يَعْرِفُ كَمْ خَلْقُهُ ؟ ) ، قال : بلى ، قال ( عليه السلام ) :
( فَتَعْرِفُ الذَّكَرَ مِنَ الأُنْثَى ؟ ، وَتَعْرِفُ عُمْرَهَا ؟ ) ، فسكت .
في التوحيد وحدوث العالم
للإمام الصادق ( عليه السلام ) مناظرات جَمَّة مع ابن أبي العوجاء ، وكان بعضها في التوحيد ، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبد الكريم من الملاحدة المشهورين .
واعترف بدسِّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكفى في معرفة حاله هذه المناظرات ، وقد قُتِل على الإلحاد كما قُتِل صاحبه ابن المقفَّع .
فمن تلك المناظرات أنه كان يوماً هو وعبد الله بن المقفَّع في المسجد الحرام ، فقال ابن المقفَّع : ترون هذا الخلق - وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانيَّة إِلا ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) - ، وأما الباقون فرعاع وبهائم .
فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء .
فقال : لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم .
فقال ابن أبي العوجاء : لا بدَّ من اختبار ما قلت فيه منه .
فقال له ابن المقفَّع : لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك .
فقال : ليس ذا رأيك ، لكن تخاف أن يضعف رأيُك عندي في إِحلالك إِيَّاه هذا المحلِّ الذي وصفتَ .
فقال ابن المقفَّع : أمَّا إذا توسَّمت عليَّ فقم إليه وتحفَّظ من الزَّلَل ، ولا تُثْنِ عنانك إلى استرسالٍ فيسلمك إلى عقال ، وسمة ما لك وعليك .
فقام ابن أبي العوجاء ، فلمَّا رجع قال : ويلَكَ يا ابن المقفَّع ، ما هذا ببشر ، وإِن كان في الدنيا روحاني يتجسَّد إذا شاء ظاهراً ويتروَّح إذا شاء باطناً فهو هذا .
فقال له : كيف ذلك ؟ .
فقال : جلست إليه فلمَّا لم يبْقَ عنده أحد غيري ابتدأني ، فقال :
( إِنْ يَكُن الأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلاءِ - يعني أهل الطواف - وَهُوَ عَلَى مَا يَقُولُونَ فَقَدْ سَلمُوا وَعَطَبْتُم ، وَإِنْ يَكُن الأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ فَقَد اسْتَوَيْتُمْ وَهُم ) .
فقلت : يرحمك الله وأيُّ شيء نقول وأيُّ شيء يقولون ، ما قولي وقولهم إِلا واحد ، فقال :
( وَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُكُ وَقَوْلُهُم وَاحِداً ، وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ لَهُمْ مَعَاداً وَثَوَاباً وَعِقَاباً ، وَيدِينُونَ بِأَنَّ لِلسَّمَاءِ إِلَهاً وَأنَّهَا عمْرَان ، وَأَنْتُم تَزْعمُونَ أَنَّ السَّمَاءَ خَرَابٌ لَيْسَ فِيْهَا أَحَدٌ ) .
قال : فاغتنمتها منه ، فقلت له : ما منعه إِنْ كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه ، يدعوهم إلى عبادته ، حتَّى لا يختلف فيه اثنان ؟ ، لِمَ احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل ؟ ، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به ، فقال لي :
( وَيْلُكَ ، كَيْفَ احْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أَرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ ؟ ، نشوكَ وَلَمْ تَكُنْ ، وَكِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ ، وَقُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ ، وَضَعفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ ، وَسقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ ، وَصِحَّتَكَ بَعْدَ سَقَمِكَ ، وَرِضَاكَ بَعْدَ غَضَبِكَ ، وَغَضَبَكَ بَعْدَ رِضَاكَ ، وَحُزْنَكَ بَعْدَ فَرَحِكَ ، وَفَرَحَكَ بَعْدَ حُزْنِكَ ، وَحُبَّكَ بَعْدَ بُغْضِكَ ، وَبُغْضَكَ بَعْدَ حُبِّكَ ، وَعَزْمَكَ بَعْدَ إِنَابَتِكَ [ وفي نسخة : إِبائِكَ ، وفي نسخة أخرى : إِنَاءَتِكَ ، وهي : الإبطاء ] ، وإِنَابَتِكَ بَعْدَ عَزْمِكَ ، وَشَهْوَتَك بَعْدَ كَرَاهَتِكَ ، وَكَرَاهَتَكَ بَعْدَ شَهْوَتِكَ ، وَرَغْبَتَكَ بَعْدَ رَهْبَتِكَ ، وَرَهْبَتَكَ بَعْدَ رَغْبَتِكَ ، وَرَجَاءَكَ بَعْدَ يَأْسِكَ ، وَيَأْسَكَ بَعْدَ رَجَائِكَ ، وَخَاطَرَكَ لِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وَهْمِكَ ، وَغُرُوبَ [ وفي نسخة : عُزُوب ] مَا أَنْتَ مُعْتَقِدَهُ عَنْ ذِهْنِكَ ) .
وما زال يعدُّ عليَّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها ، حتَّى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه [ الكافي : كتاب التوحيد منه ، باب حدوث العالم وإثبات المحدث ] .
ثمَّ إنَّ ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني فَجَلَس وهو ساكت لا ينطق ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( كَأَنَّكَ جِئْتَ تُعِيدُ بَعْضَ مَا كُنَّا فِيْهِ ) ، فقال : أردتُ ذلك يا ابن رسول الله ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( مَا أَعْجَبُ هَذَا !! ، تُنْكِرُ اللهَ ، وَتَشْهَدُ أَنِّي ابْنَ رَسُولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) !! ) .
فقال : العادة تحملني على ذلك ، فقال له الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( فَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الكَلامِ ) ، قال : إِجلال لك ومهابة ، ما ينطق لساني بين يديك ، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلِّمين ، فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك ، قال ( عليه السلام ) :
( يَكُونُ ذَلِكَ ، وَلَكنْ أَفْتَحُ عَلَيْكَ سُؤَالاً - وأقبَلَ عليه فقال ( عليه السلام ) له - : أَمَصْنُوعٌ أَنْتَ أَمْ غَيْرُ مَصْنُوعِ ؟ ) .
فقال له ابن أبي العوجاء : أنا غير مصنوع ، فقال له الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( فَصِفْ لِي لَوْ كُنْتَ مَصْنُوعاً كَيْفَ كُنْتَ تَكُون ؟ ) ، فبقيَ عبدُ الكريم مليّاً لا يحير جواباً ، وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول : طويل عريض ، عميق قصير ، متحرِّكٌ ساكن ، كلُّ ذلك من صفة خلقه ، فقال له الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) :
( فَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَعْلَمْ صِفَةَ الصنْعَةِ مِنْ غَيْرِهَا فَاجْعَلْ نَفْسَكَ مَصْنُوعاً لِمَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ مِمَّا يَحْدُثُ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ ) ، فقال له عبد الكريم : سألتَني عن مسألة لم يسألني أحدٌ عنها قبلك ، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها ، فقال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( هَبْكَ عَلِمْتَ أَنَّكَ لَمْ تُسْأَلْ فِيْمَا مَضَى ، فَمَا عِلْمُكَ أَنَّكَ لَمْ تُسْأَلْ فِيْمَا بَعْدُ ؟ ، عَلَى أَنَّكَ يَا عَبْدَ الكَرِيْمِ نَقَضْتَ قَوْلَكَ ، لأَنَّكَ تَزْعمُ أَنَّ الأَشْيَاءَ مِنَ الأَوَّلِ سَوَاءً ، فَكَيْفَ قَدَّمْتَ وَأَخَّرْتَ ؟ ) .
ثم قال ( عليه السلام ) :
( يَا عَبْدَ الكَرِيْمِ : أَنزِيْدُكَ وُضُوحاً ؟ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ مَعَكَ كِيْسٌ فِيْهِ جَوَاهِرٌ ، فَقَالَ لَكَ قَائِلٌ : هَلْ فِي الكِيْسِ دِيْنَارٌ ؟ ، فَنَفَيْتَ كَونَ الدِّيْنَارِ فِي الكِيْسِ ، فَقَالَ لَكَ قَائِلٌ : صِفْ لِي الدِّيْنَارُ ؟ ، وَكُنْتَ غَيْرَ عَالِمٍ بِصِفَةٍ ، هَلْ لَكَ أَنْ تَنْفِي كَوْنَ الدِّيْنَارِ فِي الكِيْسِ وَأَنْتَ لاَ تَعْلَمُ ؟ ) .
قال : لا ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( فَالْعَالَمُ أَكْبَرُ وَأَطْوَلُ وَأَعْرَضُ مِنَ الكِيْسِ ، فَلَعَلَّ فِي العَالَمِ صنْعَةً مِنْ حَيْثُ لا تَعْلَمُ ، لا تَعْلَمُ صِفَةَ الصَّنْعَةِ مِنْ غَيْرِ الصَّنْعَةِ ) .
فانقطع عبد الكريم ، وأجاب إِلى الإِسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض .
فعاد في اليوم الثالث فقال : أقلب السؤال ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( سَلْ عَمَّا شِئْتَ ) ، فقال : ما الدليل على حدوث الأجسام ؟ فقال ( عليه السلام ) :
( إِنِّي مَا وَجَدْتُ صَغِيْراً وَلاَ كَبِيراً إِلاَّ وَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ مِثْلُهُ صَارَ أَكْبَرَ ، وَفِي ذَلِكَ زَوَالٌ وَانْتِقَالٌ عَنِ الحَالَةِ الأُولَى ، وَلَو كَانَ قَدِيْماً مَا زَالَ وَلا حَالَ ، لأَنَّ الَّذِي يَزُولُ وَيَحُولُ يَجُوزُ أَنْ يَجُودَ وَيَبْطُلَ ، فَيَكُونَ بِوُجُودِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ دُخُولٌ فِي الحَدَثِ ، وَفِي كَونِهِ فِي الأولَى دُخُولُه فِي العَدَم ، وَلَنْ يَجْتَمِعَ صِفَةُ الأَزَلِ وَالعَدَمِ فِي شَيءٍ وَاحِدٍ ) .
فقال عبد الكريم : هَبْك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها مِن أين كان لك أن تستدلَّ على حدوثها ؟ ، فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى هَذَا العَالَمِ المَوْضُوعِ ، فَلَو رَفَعْنَاهُ وَوَضَعْنَا عَالَماً آخَرَ كَانَ لاَ شَيْءَ أَدَلّ عَلَى الحَدَثِ مِنْ رَفْعِنَا إِيَّاهُ وَوَضْعِنَا غَيْرهُ ، وَلَكِنْ أَجَبْتُ مِنْ حَيْثُ قَدَّرْتُ أنَّكَ تُلْزِمُنَا وَتَقُول : إِنَّ الأَشْيَاءَ لَوْ دَامَتْ عَلَى صِغَرِهَا لَكَانَ فِي الوَهْمِ أَنَّهُ مَتَى مَا ضُمَّ شَيءٌ مِنْهُ إِلَى مِثْلِهِ كَانَ أَكْبَرُ ، وَفِي جَوَازِ التغَيُّرِ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ مِنَ القِدَمِ ، كَمَا بَانَ فِي تَغْيِيرِ دُخُولِهِ فِي الحَدَثِ لَيْسَ وَرَاءَه شَيءٌ يَا عَبْدَ الكَرِيْمِ ) ، فانقَطع وخُزِّي .
ولمَّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم ، فقال له بعض شيعته : إِنَّ ابنَ أبي العوجاء قد أسلم ، فقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( هُوَ أَعْمَى مِنْ ذَلِكَ ، لاَ يُسْلِمُ ) ، فلمَّا بصر بالإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : سيِّدي ومولاي ، فقال ( عليه السلام ) له :
( مَا جَاءَ بِكَ إِلَى هَذَا المَوْضِعِ ؟ ) ، فقال : عادةُ الجسد وسُنَّةُ البلد ، ولِنبصرَ ما الناس فيه من الجنون والحَلْقِ وَرَمْيِ الحجارة ، فقال له الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
( أَنْتَ بَعْدُ عَلَى عُتُوِّكَ وَضَلالِكَ يَا عَبْدَ الكَرِيْمِ ) ، فذهب يتكلم ، فقال ( عليه السلام ) له :
( لاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ ) ، ونفض رداءه من يده وقال ( عليه السلام ) :
( إِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُ نَجَوْنَا وَنَجَوْتَ ، وَإِنْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نَقُولُ وَهُوَ كَمَا نَقُولُ نَجَوْنَا وَهَلَكْتَ ) [ توحيد الصدوق ( طاب ثراه ) ، باب حدوث العالم ] .
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع ابن أبي العوجاء
في تبديل الجلود في النار
وناظر ابنُ أبي العوجاء الإمامَ الصادق ( عليه السلام ) يوماً في تبديل الجلود في النار ، فقال : ما تقول في هذه الآية :
( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ) [
النساء : 56 ] ، هَبْ هذه الجلود عصَتْ فعُذِّبت ، فما بالُ الغير يعذَّبُ
؟ ، قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( وَيْحَكَ ، هِيَ هِيَ وَهِي غَيْرُهَا ) ، قال : اعْقِلْني هذا القول ، فقال ( عليه السلام ) له :
( أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَهدَ إِلَى لَبْنَةٍ فَكَسَرَهَا ،
ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهَا الْمَاءَ وَجَبَلَهَا [ ليَّنها ] ، ثُمَّ رَدَّهَا
إِلَى هَيْئَتِهَا الأُوْلَى ، أَلَمْ تَكُنْ هِيَ هِيَ وَهِيَ غَيْرُهَا ؟
) ، فقال : بلى أمتع الله بك [ الاحتجاج للشيخ الطبرسي : 354 ] .
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع ابن أبي العوجاء في الخلق
دخل ابن أبي العوجاء يوماً على الإمام الصادق ( عليه السلام ) يوماً ،
فقال : أليس تزعم أن الله تعالى خالق كلِّ شيء ؟ ، فقال أبو عبد الله (
عليه السلام ) :
( بلى ) ، فقال : أنا أخلق ، فقال ( عليه السلام ) له :
( كَيْفَ تَخْلُقُ ؟ ) ، فقال : أحدث في الموضع ثمَّ ألبث عنه ، فيصير
دواباً ، فكنت أنا الذي خلقتها ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
( أَلَيْسَ خَالِقُ الشَّيءِ يَعْرِفُ كَمْ خَلْقُهُ ؟ ) ، قال : بلى ، قال ( عليه السلام ) :
( فَتَعْرِفُ الذَّكَرَ مِنَ الأُنْثَى ؟ ، وَتَعْرِفُ عُمْرَهَا ؟ ) ، فسكت .