من كتاب حقائق التاويل للشريف الرضي
فصل
( الراسخون في العلم وعلمهم بتأويل الكتاب )
فأما قوله تعالى في ذيل هذه الآية : ( وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما
يذكر إلا أولوا الألباب ) فبين العلماء فيه اختلاف :
فمنهم من جعل الوقف عند اسم الله تعالى ، واستأنف قوله سبحانه :
[ والراسخون في العلم يقولون آمنا به ] ، فمن ذهب إلى هذا المذهب منهم
يخرج العلماء عن أن يعلموا كنه التأويل وحقيقته ، ويطلعوا طلعه ويستنبطوا
غوامضه ، ويستخرجوا كوامنه ، وحطهم بذلك عن رتبة قد استحقوا
الايفاء عليها واطلاع شرفها ، لان الله سبحانه قد أعطاهم من نهج
السبيل وضياء الدليل ما يفتتحون به المبهم ويصدعون المظلم ، وكل
ذلك بتوفيق الله إياهم ونصب منار الأدلة لهم ، فعلمهم بذلك مستمد
من علم الله سبحانه ، فلا معنى للوقوف بهم دون هذه المنزلة ، والاحجام
عن إيصالهم إلى أقصى هذه الرتبة .
وأما الذين يجعلون الوقف عند قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا
الله والراسخون في العلم ) ، فيوفون الاستثناء حقه بادخال العلماء فيه ،
ويجعلون لهم مزية العلم بتأويل القرآن ، ومعرفة مداخله ومخارجه ، وسلوك
محاجه ومناهجه . وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد
والربيع
فأما المحققون من العلماء فيقفون في ذلك على منزلة وسطى وطريقة
مثلي ، فلا يخرجون العلماء ههنا عن أن يعلموا شيئا من تأويل القرآن
جملة ، ولا يعطونهم منزلة العلم بجميعه ، والاستيلاء على قليله وكثيره .
بل يقولون : إن في التأويل ما يعلمه العلماء ، وفيه ما لا يعلمه إلا الله
تعالى : من نحو تعيين الصغيرة ووقت الساعة وما بيننا وبينها من
المدة ومقادير الجزاء على الاعمال وما أشبه ذلك .
وهذا قول جماعة من متقدمي العلماء : منهم الحسن البصري وغيره واليه
ذهب أبو علي الجبائي ، لأنه يجعل المراد بالتأويل في هذه الآية مصائر
الأمور وعواقبها ، كقوله تعالى : ( هل ينظرون إلا تأويله
يوم يأتي تأويله . . ) ، أي : مصيره وعاقبته ، لان
أصل التأويل من قولهم : آل يؤول ، إذا رجع .
ومما يؤكد ذلك أن مجاهدا قال في قوله تعالى : ( ذلك خير
وأحسن تأويلا ): ( إنه سبحانه أراد بالتأويل ههنا : الجزاء
على الاعمال ) ، فهذا المعنى يلامح ما نحن في ذكره ، لان الجزاء إنما
هو الشئ الذي آلوا إليه وحصلوا عليه .
وقد قيل أيضا : ( إن المراد وما يعلم تأويله على التفصيل إلا الله تعالى
أو لا يعلم تأويله بعينه إلا الله ، لان كثيرا من المتشابه يحتمل الوجوه
الكثيرة ، وكلها غير خارج عن أدلة العقول ، فيذكر المتأولون
جميعها ، ولا يقع القطع منهم على مراد الله تعالى بعينه منها ،
ولا يعلم ذلك إلا الله ، لان الذي يلزم المكلف من ذلك أن يعلم في الجملة
أنه سبحانه لم يرد ما يخالف أدلة القول ، ولأنه ليس من تكليفنا أن
نعلم ان المراد من ذلك بعينه ، وإن كان العلماء يعلمونه على الجملة
وعلى الوجه الذي يمكن أن يعلم عليه .
و في قول الراسخين في العلم : ( آمنا به كل من عند
ربنا ) دلالة على استسلامهم في ما لم يعلموا من تأويل المتشابه ، وما استبد
الله بعلمه من قبيل ما ذكرنا : كوقت القيامة وتمييز الصغائر من الكبائر ،
إلى ما أشبه ذلك ، فقد بان أن في تأويل المتشابه ما لا يعلمونه ، وإن كان
يعلمون كثيرا منه .
وقال قاضي القضاة أبو الحسن - بعد ذكره طرفا من الخلاف
في هذه الآية - : [ وما يقوله من حمل العطف على حقيقته وجعل
للعلماء نصيبا من علم التأويل على تفصيله أو جملته ، إما أن يكون المراد
بذلك عنده وما يعلم تأويله إلا الله وإلا الراسخون في العلم ومع علمهم
بتأويله ( يقولون آمنا به ) ، أو يكون المراد أنهم يعلمون تأويله في
حال قولهم : ( آمنا به كل من عند ربنا ) ، ومن قال بذلك استدل
بظاهر العطف ، وأنه يقتضي مشاركة الثاني للأول في ما وصف به الأول
وأخبر به عنه ] . وقال : [ إذا أمكن ذلك وأمكن حمل قوله تعالى :
( يقولون آمنا به ) على الحال أو على خبر ثان وجب القول بذلك ،
ولكلا الوجهين مسرح في طريق اللغة . وإنما ينبغي أن ننظر من
جهة المعنى ، فان ثبت بالدليل صحة أحد المعنيين قضي به ، وإلا لم
يمتنع أن يرادا جميعا إذا لم يقع بينهما تناف ] .
قلت أنا : وهذه طريقة لأبي علي فيما ورد من القراءات
متغايرا فإنه يقول : ( إذا كان يمكن حمل الكلام على القراءتين المختلفتين ،
فإنهما جميعا مرادتان ، إذا صحت القراءة بهما جميعا ، نظير ذلك قوله
سبحانه ( وجدها تغرب في عين حمئة ) وقد قرئ حامية ) .
فيقول : [ إنه يجب أن تكون العين على الصفتين معا ، فتكون حمئة من
الحمأة ، وحامية من الحمي ، فتكون هناك حرارة وحمأة ، وإلا كان
يجب ألا تجوز إحدى القراءتين ، لان من أصله أن كل كلام احتمل
حقيقتين - ولم يكن هناك دلالة على أن المراد به إحدى الحقيقتين دون
الأخرى - فواجب حمل الكلام عليهما جميعا حتى يكونا مرادين بذلك ،
ومتى لم يمكن حمل الكلام عليهما جميعا ، فلا بد من أن يبين الله تعالى
مراده منهما بدلالة ، وإلا خرج من أن يكون فيه فائدة.
فأما من قرأ حمئة من الحمأة ، فاني قرأت بذلك على شيوخ
القراءة لابن كثير ونافع وأبي عمرو وحفص ، عن عاصم ، وأما من قرأ
حامية من الحمي ، فاني قرأت به لحمزة والكسائي وأبي بكر بن عياش ،
عن عاصم وعبد الله بن عامر .
وقد ظن بعض الناس أنه لا يجوز إلا أن يكون تمام الكلام ومقطعه
عند قوله تعالى : [ وما يعلم تأويله إلا الله ] ، وأن الواو للاستقبال
دون الجمع . قال : ( لأنها لو كانت للجمع لقال : ويقولون آمنا به
فيستأنف الواو كما استأنف الخبر ، . واحتج على هذا [ القول من قال
بالقول ] الأول ، بأن قال : ( هذا جائز وقد وجد مثله في
القرآن : وهو قوله تعالى - في معنى قسم الفئ - : ( ما أفاء
الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول . . . إلى قوله
سبحانه ، إن الله شديد العقاب ) ثم أعقب ذلك بالتفصيل
وتسمية من يستحق هذا الفئ ، فقال : ( للفقراء المهاجرين الذين
أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا . . .
إلى قوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون . . . ) ، وهؤلاء
لا شك داخلون في مستحقي الفئ كالأولين ، والواو ههنا للجمع ، ثم قال
سبحانه ، يقولون ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالايمان . . . ) ، ومعناه : قائلين : ربنا اغفر لنا ولإخواننا ،
فكذلك قوله سبحانه : ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) يكون
معناه : والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصبت لهم عليه الدلائل ، ونحيت
لهم إليه المذاهب من المتشابه قائلين آمنا به ، ومن الشاهد على ذلك قول
يزيد بن مفرغ الحميري - لما سامه عباد بن زياد أن يبيع عبده بردا في
دين لزمه ، وحديثه في هذه القصة طويل وهو بعد مستفيض - :
وشريت بردا ، ليتني * من بعد برد كنت هامه )
فالريح تبكي شجوها * والبرق يلمع في الغمامة
قوله : ( وشريت ) يريد : وبعت ، وهو من الأضداد .
وقوله : ( والبرق يلمع . . . ) يريد : والبرق أيضا يبكي شجوه لامعا
في الغمامة ، أي : في حال لمعانه ، ولولا أن المراد هذا لما كان لقوله :
( والبرق يلمع في الغمامة ) اتصال بقوله : ( فالريح تبكي شجوها ) ، بل كان
بعيدا منه قصيا ، وغريبا أجنبيا .
وإذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية ، في
وجوب رد المتشابه إلى المحكم ، فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا
بالمحكم على معناه ، ولو كان العلماء لا يعلمون شيئا من تأويل المتشابه بتة ، ما
كان لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله علم أمير المؤمنين عليه السلام
التفسير ، معنى ، لان معنى التفسير والتأويل إنما يكون لما غمض ودق ولم
يعلم بظاهره . وهذه صفة المتشابه ، وأما المحكم الذي يعلم بظاهره ،
فلا حاجة بأحد إلى تعليمه ، لان أهل اللسان فيه سواء ، ولولا أن الامر
على ذ لك لما كان لدعاء النبي صلى الله عليه وآله لابن عباس ( ره ) بأن
يعلمه الله التأويل معنى ، لأنا نعلم أنه لم يرد عليه السلام تعليمه الظاهر
الواضح ، فلم يبق إلى الغامض الباطن .
ومن وجه آخر : أن حقيقة الواو الجمع ، فوجب حملها على سنن
حقيقتها ومقتضاها ، ولا يجوز حملها على الابتداء الا بدلالة ، ولا دلالة
ههنا توجب صرفها عن الحقيقة ، فوجب حملها على الجمع ، حتى تقوم الدلالة .
وكان أبو حاتم السجستاني يقول : ( إن الوقف على قوله تعالى :
[ وما يعلم تأويله الا الله ] ، لأنه قد حذف من الكلام ( أما ) ،
وكأنه تعالى قال : ( وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به ) ، وزعم
أنه إنما جاز حذفها لأنه قد جرى ذكرها وهو قوله تعالى : ( فأما الذين
في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) . قال : ( و ( أما ) لا تكاد
تجئ في القرآن مفردة حتى تثني أو تثلث أو تزاد على ذلك كقوله
سبحانه : ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) وكقوله
تعالى : ( أما السفينة فكانت لمساكين . . . وأما الغلام
فكان أبواه مؤمنين . . . وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين . .)
فلما قال سبحانه : ( فالذين في قلوبهم زيغ ) قدرنا ان ( أما ) مرادة مع
( الراسخين في العلم ) ، فكأنه تعالى قال : وأما الراسخون في العلم . . . )
وكلام أبي حاتم في ذلك غير سديد ولا مطرد ، لأنه قدر في الكلام
حذف ( أما ) ، وذكر أنها تقع في القرآن كثيرا مكررة . ولعمري
إن الامر كما قال من وقوعها مكررة في القرآن ! ، وما علمناها جاءت
فيه مرادة محذوفة ، وكان ينبغي أن يرينا من القرآن موضعا هي فيه مرادة
وقد حذفت ليكون شاهدا على ما ذكره ، فأما أن يستشهد بتكريرها على حذفها
فذلك غير مستقيم ، ولو كان الامر على ما قال لكان وجه الكلام أن
يقول تعالى : ( والراسخون في العلم فيقولون آمنا به ) ، كما قال سبحانه :
( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون . . . ) ، فيعلم أن الموضع لاما ،
وألا لم تكن على ذلك دلالة .
ولا يجوز الوقف على العلم في الوجهين جميعا لان ما بعد العلم يكون
حالا في أحد الوجهين وخبرا في الآخر ، و ( الوقف التام ) على
( به ) ، وقد أوردنا في هذه المسألة ما فيه بلاغ ومقنع بتوفيق الله تعالى .