من كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر
قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية بعد مقتل الامام علي عليه السلام وقد استقامت
لمعاوية البلاد ، فأدنى مجلسه ، وأعظم جائزته ، فحسده عمرو بن العاص فقدم على معاوية
فاستأذن عليه في غير وقت الإذن له فقال له معاوية : يا أبا عبد الله ؟ ما أعجلك قبل
وقت الإذن فقال : يا أمير المؤمنين ؟ أتيتك لأمر قد أوجعني وارقني وغاظني ، وهو من بعد
ذلك نصيحة لأمير المؤمنين . قال : وما ذاك ؟ يا عمرو ؟ قال : يا أمير المؤمنين ؟ إن أبا
الأسود رجل مفوه له عقل وأدب ، من مثله للكلام يذكر ؟ وقد أذاع بمصرك
من الذكر لعلي ، والبغض لعدوه وقد خشيت عليك أن يترى في ذلك حتى يؤخذ
لعنقك ، وقد رأيت أن ترسل إليه ، وترهبه ، وترعبه ، وتسبره ، وتخبره ، فإنك
من مسألته على إحدى خبرتين ، إما أن يبدي لك صفحته فتعرف مقالته ، وإما أن
يستقبلك فيقول ما ليس من رأيه ، فيحتمل ذلك عنه فيكون لك في ذلك عاقبة صلاح إنشاء
الله تعالى . فقال له معاوية : إني امرؤ والله لقل ما تركت رأيا لرأي امرئ قط إلا
كنت فيه بين أن أرى ما أكره وبين بين ، ولكن إن أرسلت إليه فسألته فخرج من مساءلتي
بأمر لا أجد عليه مقدما ويملأني غيظا لمعرفتي بما يريد ، وإن الأمر فيه أن يقبل ما
أبدى من لفظه فليس لنا أن نشرح عن صدره وندع ما وراء ذلك يذهب جانبا . فقال
عمرو : أنا صاحبك يوم رفع المصاحف بصفين ، وقد عرفت رأي ولست أرى خلافي و
ما آلوك خيرا ، فأرسل إليه ولا تفرش مهاد العجز فتتخذه وطيئا .
فأرسل معاوية إلى أبي الأسود فجاء حتى دخل عليه فكان ثالثا فرحب به معاوية
وقال : يا أبا الأسود ؟ خلوت أنا وعمرو فتناجزنا في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وقد
أحببت أن أكون من رأيك على يقين . قال : سل يا أمير المؤمنين ؟ عما بدا لك . فقال : يا
أبا الأسود ؟ أيهم كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فقال : أشدهم حبا لرسول الله صلى الله عليه وآله
وأوقاهم له بنفسه . فنظر معاوية إلى عمرو وحرك رأسه ، ثم تمادى في مسألته فقال :
يا أبا الأسود ؟ فأيهم كان أفضلهم عندك ؟ قال أتقاهم لربه وأشدهم خوفا لدينه . فاغتاظ
معاوية على عمرو ، ثم قال : يا أبا الأسود ؟ فأيهم كان أعلم ؟ قال : أقولهم للصواب وأفصلهم
للخطاب . قال : يا أبا الأسود ؟ فأيهم كان أشجع ؟ قال : أعظمهم بلاء ، وأحسنهم عناء ،
وأصبرهم على اللقاء . قال : فأيهم كان أوثق عنده ؟ قال من أوصى إليه فيما بعده . قال :
فأيهم كان للنبي صلى الله عليه وآله صديقا ؟ قال : أولهم به تصديقا . فأقبل معاوية على عمرو و
قال : لا جزاك الله خيرا ، هل تستطيع أن ترد مما قال شيئا ؟ فقال أبو الأسود : إني قد
عرفت من أين أتيت ، فهل تأذن لي فيه ؟ فقال : نعم . فقل ما بدا لك . فقال يا أمير المؤمنين ،
إن هذا الذي ترى هجا رسول الله صلى الله عليه وآله بأبيات من الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم ؟
إني لا أحسن أن أقول الشعر فالعن عمرا بكل بيت لعنة . أفتراه بعد هذا نائلا فلاحا ؟
أو مدركا رباحا ؟ وأيم الله إن امرءا لم يعرف إلا بسهم أجيل عليه فجال لحقيق أن
يكون كليل اللسان ضعيف الجنان ، مستشعرا للاستكانة ، مقارنا للذل والمهانة ، غير
ولوج فيما بين الرجال ، ولا ناظر في تسطير المقال ، إن قالت الرجال أصغى ، وإن قامت
الكرام أقعى متعيص لدينه لعظيم دينه ، غير ناظر في أبهة الكرام ولا منازع لهم ،
ثم لم يزل في دجة ظلماء مع قلة حياء ، يعامل الناس بالمكر والخداع ، والمكر والخداع
في النار . فقال عمرو : يا أخا بني الدؤل ؟ والله إنك لأنت الذليل القليل ، ولولا ما
تمت به من حسب كنانة لاختطفتك من حولك اختطاف الأجدل الحدية غير أنك
بهم تطول ، وبهم تصول ، فلقد استطبت مع هذا لسانا قوالا ، سيصير عليك وبالا ، و
أيم الله إنك لأعدى الناس لأمير المؤمنين قديما وحديثا ، وما كنت قط بأشد عداوة
له منك الساعة ، وإنك لتوالي عدوه ، وتعادي وليه ، وتبغيه الغوائل ، ولئن أطاعني
ليقطعن عنه لسانك ، وليخرجن من رأسك شيطانك ، فأنت العدو المطرق له إطراق
الأفعوان في أصل الشجرة .
فتكلم معاوية فقال : يا أبا الأسود ؟ أغرقت في النزع ولم تدع رجعة لصلحك . و
قال لعمرو : فلم تغرق كما أغرقت ولم تبلغ ما بلغت ، غير أنه كان منه الابتداء والاعتداء ،
والباغي أظلم ، والثالث أحلم ، فانصرفا عن هذا القول إلى غيره وقوما غير مطرودين ،
فقام عمرو وهو يقول :
لعمري لقد أعيى القرون التي مضت * لغش ثوى بين الفؤاد كمين
وقام أبو الأسود وهو يقول :
ألا إن عمرا رام ليث خفية ( 1 ) وكيف ينال الذئب ليث عرين
علما ان ابا الاسود الدؤلي من التابعين وهو رجل رواية للاحاديث ثقة صدوق من رجال الصحاح الستة