العلامة الحجة الشیخ عبد الحسین الأميني النجفي
بقلم العلامة السید محمد صادق بحر العوم
لقد ظَفَر الإسلام - من أقدم عصوره الغابرة حتّى اليوم - بأعلامٍ وقفوا أنفسهم على خدمته خدمةً صالحة، وضحّوا براحتهم الغالية وحياتهم الثّمينة في سبيل نشره قولاً وكتابةً، وقد وثب الإسلام بجهودهم الجبّارة وثبةً كُبرى ليس لها مثيلٌ في سائر الأديان، فترى ركب الإسلام يسير سيراً حثيثاً نحو الهدف المنشود، وقد ثبتت قواعده على أصلٍ أصيل، ونبت زرعه في أرضٍ صالحةٍ، وآتى أُكُلُهُ كلّ حين، وتراهم لا يبالون بالجهود في الحفاظ عليه، ولا يحسّون بثقل العبء وفداحة الجُهد، رغم ما تناوشتهم رماح المعتدين، ونِبال الحاقدين وسيوق المناوئين من كلّ حَدبٍ وصوبٍ، فهم - مع ذلك كلّه - يجمعون من التراث الإسلامي الكثير الطيّب وينشرون الآثار الصالحة المليئة بنتاج أفكارهم الرائقة، وثمار علومهم النّاضجة في العالم الإسلامي وغيره ممّا هو غرّةٌ في جبين الدّهر، وليس القصد من وراء ذلك إلّا ابتغاء وجه اللَّه والدّار الآخرة، أداءً لرسالة النبيّ الأعظمصلى الله عليه وآله وسلم، وخدمةً لآثار الأئمّة الطاهرينعليهم السلام، ولا هَمَّ لهم سوى خدمة الإسلام، وتركيز قواعده، وانتشال الجاهلين من هوّة الضّلالة إلى ساحل السّلامة، والإصحار بالحقّ الواضح، وبيان الطّريق اللّاحب ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ﴾1.
ومن أُولئك الأبطال الّذين كرّسوا حياتهم الثّمينة في خدمة الإسلام خدمةً صالحةً صديقنا الحجّة الأميني، الشَّيخ عبد الحسين - قدّس اللَّه سرّه - فقد أنتج بهمّته القعساء وسمّوه في الفضيلة موسوعته القيّمة؛ عديمة النّظير الغدير في الكتاب والسُنّة، تلك الموسوعة التي هي لباب فكره الصّائب، ودائرة معارف فيها ما لذَّ وطاب، مع حججٍ قويّة وبراهين ساطعة لا تقبَل الجَدل، فهي موسوعةٌ نادرة في العلم والأدب والتاريخ والتّراجم، وروضةٌ بهيجةٌ أنيقة ساحرة بالطّرق الأدبيّة الزّاهرة، وهي فوق ذلك دائرة معارف جليلة مهمّة، حاملة بكثير من الآراء الدينيّة السّديدة التي تطمئنّ إليها النفوس الزّائفة الحائرة الغارقة في حنادس الجهالة.
فالكتاب إذاً جاء نبراساً مُنيراً، ودليلاً هادياً لمن أراد الحقّ وطلب الرَّشاد، وآية ذلك ما يجده القارئ الكريم في تضاعيفه، ولا أراني بحاجةٍ إلى إطرائه، غير أنّي لستُ مغالياً إن قلت: إنّه - طاب ثراه - سبق غيره إلى هذا الموضوع وهذا الفنّ العجيب الفريد في بابه، فكان فيه المحلّق والسبّاق، والفائز بالقِدح المعلّى، فقد سدَّ فراغاً بتأليف هذه الموسوعة بما يتعذّر على مثله من المؤلّفين الأعلام، فالكتاب بحقٍّ لونٌ جديدٌ من التأليف، ونوعٌ مُبتكَرٌ، إن دلَّ على شيء فإنّما يدلّ على طول باع مؤلّفه وسِعة اطّلاعه بما أودعه فيه من الآراء الناضجة وأفكاره الصّائبة ونظراته الصحيحة، فقد ضمّت هذه الموسوعة ما تشتهيه الأنفس وتلذّ به الأعين، واستهوت أُولئك الذين حادوا عن الحقّ وأخطأوا الطريق الواضح، فتاهوا في فيافي الجهالة والضّلالة ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾2، وللَّه درّ القائل:
العيبُ في العين لا في الشّمس مشرقةًإن أنكرت مُقلة الخفّاش لئلاها
وبعدُ: فإنّ شيخنا الأمينيقدس سره شخصيّةٌ فذّة، وذو شهرةٍ واسعة مرموقة، وفي الطّليعة بين أساطين الفنّ ورجال العلم الطّائري الصِّيت، وفضله أشهر من أن ينوّه به أو ينبّه عليه، فحقّ إذاً أن يقول فيه القائل:
وإذا العناية سخّرتك لأمرهاآثرت فضلاً واجتنبتَ فضولاورَنَت عيون الخَلق نحوك طُلّعاًوالدّهر أرهف سمعه لتقولاتهدي العصور إليك من نسج الثّناحللاً تجرّر للخلود ذيولا
ويقول بعض الاُدباء من قصيدةٍ أرسلها إليه تبلغ 67 بيتاً، نشرت في أوّل الجزء الثامن من كتاب الغدير:
إيهٍ أمين الشّرق ما حارت بك ال-منزعات مغرضةً إلى حيث الرّدىكم راح يزرع في طريقك شوكهمَن رحتَ تُلبِسه العُلى والسُّؤدداوالمارد الممسوخ كم لذعتك منكفّيه أظفارٌ كأن خُلقت مُدىقد وَدَّ لو سَدَّ الفضا وأراك منظلماته قِطعاً وليلاً أسوداويداك يحتضنان كلّ فضيلةٍلحياته مُذ حادَ عنك وندّداوغرست جنّتك التي قد أنبتتفي الأرض سبع سنابلٍ كي يحصداوقتلتَ نفساً لو جرى نَفَس الضّحىمن فوقها لمشى الهوينا واهتدىلا غروَ إنّ الشَّمع يقتل نفسهطمعاً لأن يحيا سواه ويخلدا
تعرّفت بالحجّة الأميني طاب ثراه - منذ أربعين سنةً أو أكثر، وكأنّها أحلامٌ مرّت علينا ونحن غافلون، لم يبق منها إلّا التاريخ والذكريات تسجّلها الأنامل وتقيّد في السِّجل وتحرّر في القرطاس، فيبقى أثرها عَبر القرون والأجيال لتكون عِبرَةً للمُعتبِر، وعِظةً للمتبصّر، وتنبيهاً للغافل.
تعرّفت به يوم كان يحرّر بقلمه السيّال الجزء الأوّل من كتاب الغدير، فدخلتُ داره يوماً أنا وزميلي العلّامة الكبير الحجّة الشَّيخ محمّد علي الأوردبادي الغروي طاب ثراه، فوجدناه مكبّاً على التأليف، يراجع الكتب المبعثرة بين يديه ويوشّح كتابه بما يلتقطه منها، لا يكلّ ولا يملّ، وكان يقرأ علينا ما يمليه، فربما نخالفه في تنسيق بعض الجُمَل، وربما نوافقه، فيرمقنا بعينيه الجذّابتين وملؤهما الحنان، وربما انصاع إلى رأينا فيغيّر الجملة إلى غيرها، فكأنّه لا يريد الاستبداد بالرّأي شأن كلّ طالبٍ للحقيقة، وشأن كلّ مُنصفٍ معترفٍ بالواقع (وقليلٌ هُم).
وهكذا كان شيخنا الأميني طاب ثراه، استمرّ في تنسيق الجزء الأوّل من الكتاب طوال اللّيل والنّهار، ونحن نزوره الفينة بعد الفينة واليوم بعد اليوم فنراه مُكبّاً على عمله، فيقرأ علينا ما نمّقه يراعه السيّال وبيانه الجذّاب حتّى برع في الكتابة كأنّه كاتبٌ عربيٌّ صميم، ثمّ استمرّ في تأليف الكتاب طوال سنين عديدة وأنتج هذه الموسوعة البديعة التي طبع منها في حياته أحد عشر جزءً وباقي الأجزاء لا تزال مخطوطة، وذلك فضل اللَّه يؤتيه مَن يشاء من عباده.
شاءت المقادير والظّروف الخاصّة أن أُبارح النّجف الأشرف فأُفارق هذا الصّديق الحميم طوال ثلاث عشرة سنة قضيتها في لواء العمارة ولواء البصرة لأسبابٍ مشروعة ثمّ أعود إلى الوطن فأجمع مع الصّديق، ومُذ رآني عانقني وعانقته شأن الحبيبين المتفارقين إذا التقيا فينظر إليَّ بعينيه الجذّابتين وقد مُلئ قلبه بهجةً وسروراً، وخاطبني بلسان المحبّة وأبدى أسفه لمغادرتي النّجف الأشرف ومفارقتي لها طوال هذه المدّة، فاعتذرتُ إليه بضرورة المفارقة، فكأنّه - طاب ثراه - لا يرى معذوريتي.
وبالجملة، حيث انتهت مهمّتي في لوائَي العمارة والبصرة ورجعت إلى وطني فما بارحتُ هذا الصّديق وكنتُ أزوره في أكثر الأحيان؛ تارةً في داره واُخرى في مكتبة الإمام أمير المؤمنينعليه السلام التي أسّسها، فأجده مُكبّاً على المطالعة والكتابة وتكميل موسوعته الغدير وتهيئة المصادر التي يستقي منها، لا يفتر ولا يملّ ليلاً ونهاراً، وفي خلال ذلك العمل الشاقّ يلاقي زائريه من مختلف الطبقات والأساتذة المسلمين وغير المسلمين بكلّ تجلّةٍ واحترام ورحابة صدر وخُلقٍ جميل، فيطلعهم على المكتبة العامرة ويُلقي عليهم محاضراتٍ علميّة أدبيّة، ويرشدهم إلى واجباتهم نحو الدِّين الإسلامي وضرورة التمسّك به، فيغادرون المكتبة وملؤهم إعجاب وإكبار لهذا البطل العظيم.
أتخطّر أنّ في بعض الأحيان زاره جماعةٌ من الأساتذة في داره يعودونه لمرضٍ ألمَّ به، وكنتُ قد سبقتهم إلى عيادته، وطلبوا منه أن يكشف لهم حقيقة (الولاية)، فجلس كالأسد الرّابض وألقى عليهم محاضرةً قيّمةً في معنى الولاية للنبيّ وآله عليهم السلام بما أبهرَ عقولهم، واتّفق خروجي معهم فوجدتهم يطرون هذا البطل بمل ألسنتهم ويعجبون من سِعَة اطّلاعه لما كشف لهم عن حقيقة الولاية ومغزاها.
وهكذا كان - طاب ثراه - مع كلّ زائرٍ يزوره، وهكذا كان مع كلّ سائلٍ يسأله من غوامض المسائل التي يوجّهها إليه، فيُجيب عنها بكلّ وضوحٍ وبيان، وكنتُ في بعض الأحيان حاضراً معهم وأسمع ما يُجيب فيزداد إكباري له.
كان - طاب ثراه - كثيراً ما يرتاد مكتبتي الخاصّة في مدرسة القوام التي كنت سكنتها مدّة عشرين سنة تقريباً، وفيها بعض الكتب المخطوطة التي ترجع إلى عهدٍ قديم من التاريخ، وفيها بعض المخطوطات التي نسختها بخطّي عن النّسخ القديمة لبعض الأعلام، وفيها من المطبوعات المتنوّعة، واتّفق أن زار المكتبة في نهار شهر رمضان وهو صائم وكان الحرّ شديداً إذ صادف شهر تمّوز وحَرّ النّجف لا يوصَف لشدّته، ولم تكن المراوح الكهربائيّة آنئذٍ معروفة، فقلّب الكتب وقيّد وسجَّل والحَرّ يسيل من جميع جوانبه وهو لا يكترث حتّى إذا حلّ وقت الزّوال فارقتَهُ وهو في المكتبة لأرقد في سرداب المدرسة أو بيتي وقايةً من الحرّ الشديد، وبعد ساعتين أو ثلاثة صعدتُ إلى المكتبة فرأيت هذا الأسد رابضاً والكتب مبعثرة بين يديه فيغمرني العَجب من جَلده وصبره الذي لا يطيقه كلّ أحدٍ في طريق خدمة العلم إلّا من أُوتي حظّاً كبيراً وتسديداً إلهيّاً وتوفيقاً عظيماً.
واتّفق أن تشرّفت بالحرَم الشريف العلويّ لزيارة الإمام عليه السلام فوجدتُ هذا المؤمن الصالح جالساً قِبالة وجه الإمام عليه السلام جِلسة الحزين الكئيب، والدّموع تسيل على لحيته المباركة وهو يقرأ بعض ألفاظ الزيارات ويُخاطب الإمامعليه السلام بكلماتٍ لا أسمعها جيّداً، ثمّ يُبارح الحرم المقدّس ودموع عينيه لا تنقطع، فيرجع توّاً إلى المكتبة ويستمرّ بالكتابة والمطالعة، فكأنّه يطلب من الإمامعليه السلام وهو في الحرم المقدّس مساعدته في تكميل موسوعته.
كثيراً ما كان يقصد زيارة أبي عبد اللَّه الحسينعليه السلام في كربلاء راجلاً مع ثلّة من صفوته المؤمنين الأخيار، فيستمرّ سفره اليومين أو الثلاثة، يُحدّثني بعض من سافر معه في الطريق أنّه لا يفتر في طريقه الطويل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلقاء المحاضرات العلميّة الدينيّة حتّى يصل إلى كربلاء، فلم يكن له هَمٌّ سوى الحضور بمشهد الإمام عليه السلام، فيحلّ فيه ودموعه تسيل على لحيته المباركة، ويزوره زيارةً لم يُعهد من غيره مثلها، ولا غَروَ فإنّه يعرف حقيقة الإمامعليه السلام ومنزلة الشهيد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام .
نبذةٌ من حياته
ولادته ونشأته وأسفاره
وُلد - طاب ثراه - في تبريز سنة 1320ه ، وأخذ المبادئ العلميّة من والده العلّامة الميرزا أحمد ابن المولى نجف علي الشهير بالأميني. وبعد أن أتمَّ المبادئ حضر في مدارس تبريز وأخذ العلوم من أساتذته الأعاظم وحجج الإسلام أمثال الحاجّ السيّد محمّد المشهور بمولانا مؤلّف مصباح السّالكين المطبوع بتبريز، والحاجّ السيّد مرتضى الخسروشاهي صاحب كتاب إهداء الحقير في معنى حديث الغدير والشَّيخ حسين مؤلّف هداية الأنام المطبوع، ومن ثمّ هاجر إلى النّجف الأشرف مدينة العلم والتشيّع لتكميل علومه والاستفادة من المناهل العذبة، فحضر على الحجج والعلماء الأعلام؛ منهم العلّامة الحجّة السيّد أبو تراب الخوانساري المتوفّى سنة 1346ه والعَلَم الحجّة السيّد محمّد الفيروزآبادي المتوفّى سنة 1345ه ، وأجازه كلٌّ من السيّد أبو الحسن الإصفهاني، والميرزا محمّد حسين الإصفهاني (الكمپاني)، والشَّيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء، والسيّد ميرزا علي آغا الشيرازي، والحجّة المشهور الشَّيخ عبد الكريم اليزدي الحائري القمّي، إجازة الاجتهاد، واستحصل إجازة الرّواية من جمعٍ كثيرٍ من العلماء، وكلّ هذه الإجازات بخطوط المُجيزين محفوظة اليوم عند ولده البارّ الاُستاذ الفاضل الشَّيخ رضا، ثمّ عاد إلى وطنه تبريز لنشر علمه وإرشاده بينهم، وكان هناك يرقى المنبر للخطابة، وكانت محاضراته تدور حول التوحيد والأخلاق، وقد شكّل جمعٌ من أصدقائه المخلصين مجالس محاضراته القيّمة، وكانت المجالس تُعقد هناك في ليالي الجمعة ويومها من كلّ أسبوع، هذا عدا شهر محرّم وصفر وشهر رمضان، وكانت له طوال هذه الأيّام والأشهر مجالس عدّة لو جُمعت لكانت كتاباً قيّماً، ثمّ عاد إلى مدينة العلم النّجف الأشرف وأكبَّ على التأليف والتصنيف فألّف كتباً جَمّةً.
ثمّ سافر إلى إيران في شهر رمضان سنة 1365ه ، وعند وصوله إلى كرمانشاه احتفّ به جمعٌ من أصدقائه وألحّوا الطّلب منه في البقاء عندهم للاستفادة منه، فأجابَ طلبهم، وهيّأوا له جامع أمين الدولة، فأخذ يُقيم بهم صلاة الجماعة الظّهر والعصر ويرقى أعواد المنبر بعد الفراغ من الصلاة ويُلقي عليهم محاضراتٍ في التوحيد والنبوّة والإمامة، وكانت محاضراته تستغرق أكثر من ساعة ونصف ساعة كلّ يوم، وقُدِّر عدد الحاضرين للاستماع منه بخمسة عشر ألفاً، فأفاض بمحاضراته إفاضةً بليغةً، وتركت في نفوسهم أثراً كبيراً ممّا جعلهم يلهجون بذكره وإطرائه.
ثمّ سافر إلى خراسان، وبعد وصوله إلى مشهد الإمام الرِّضاعليه السلام ألحَّ عليه وجوه المدينة والمتديّنون بأن يُلقي عليهم دروساً إصلاحيّة، فأجاب طلبهم، وهيّأوا له مدرسة معتمد خان، فرقى صهوات المنبر وكان يُلقي عليهم المحاضرات كلّ ليلة وتستغرق كلّ جلسةٍ أكثر من ساعتين، وقد ضُبطت محاضراته على أشرطة التسجيل، وهي تحوي دروساً عاليةً في التوحيد والنبوّة والإمامة، واستمرّت عشر ليال.
ثمّ سافر إلى إصفهان في شهر صفر سنة 1376ه ، وبقي هناك شهراً كاملاً يلقي في أيّامه محاضراتٍ علميّة دينيّة - بطلبٍ من أعلامهم - في مسجد سيّد ومسجد نو ومسجد جامع، ويحضر مجلس محاضراته زهاء عشرة آلاف من المستمعين من جميع الطّبقات، فبعد أن يُقيم صلاة الجماعة بهم يرقى المنبر فيُفيض عليهم من علمه الفيّاض ومن منهله العذب، وقد ألّف بعض الحاضرين في مجالس محاضراته كتاباً فارسيّاً سمّاه يك ماه در اصفهان، طبع سنة 1376ه3، وفي كلّ ذلك كان موضع إعجاب من أهالي إصفهان وتقديرٍ لمقامه العلميّ.
وقدّم كثير من الأعلام والأهالي في إصفهان مكتباتهم إليه ليجعلها ضمن مكتبة الإمام أمير المؤمنينعليه السلام، وقد ذُكر في آخر الكتاب المذكور فهرسٌ منظّم بأسماء المتبرّعين المذكورين فبلغوا 76 شخصاً، كما أنّهم قدّموا له أموالاً طائلةً لتكون رصيداً لمكتبة الإمام عليه السلام .
ثمّ غادر إصفهان آخر شهر صفر، وشيّعه علماء إصفهان والوعّاظ والمتديّنون وجمعٌ كثير يربو عددهم على ستّة آلاف إلى خارج البلد حتّى فرسخين منه متأسّفين على مغادرته بلدهم، وودّعوه وداع الحبيب لحبيبه، فوصل طهران ومنها رجع إلى النّجف الأشرف لتكميل موسوعته الغدير، وكان في تكميلها جاهداً لإصدار أجزاء الكتاب الذي هو مفخرة للطائفة.
ثمّ سافر إلى العواصم الهنديّة سنة 1380ه ، ونحن ننقل للقرّاء الكرام ملخّص هذه الرّحلة الميمونة ممّا ذكره نجله البارّ الاُستاذ الفاضل الشَّيخ رضا الأميني في صحيفة المكتبة، العدد الثاني المطبوع بطهران، قال أدام اللَّه تأييده:
كنتُ أرى منذ مدّةٍ غير قريبة كثرة الخوض من سماحة آية اللَّه المجاهد المصلح والدنا الأجلّ في الحديث عن الثروات العلميّة والآثار والمآثر الإسلاميّة المودعة في الدِّيار الهنديّة، وكنتُ أشعر منه شوقاً أكيداً، ورغبةً شديدةً في السّفر إلى تلكم الدِّيار والبلاد المعجبة من جلّ نواحيها، غير أنّ اشتغاله بطبع كتابه الضّخم الفخم القيّم الغدير مرّةً في النّجف الأشرف، واختلافه إلى إيران لمرّته الثانية، أضف إليه دؤبه المتواصل بإتمام بقيّة ذلك العمل المشكور والأثر الخالد الباقي مع الأبد، والاُمّة المسلمة في أمسّ حاجة إلى كتابٍ كهذا يجمع صفوفها ويوقفها على صالحها، ويدلّها إلى المهيع اللّحب، ويُريها الحقيقة الرّاهنة، ويلمسها باليد ناصعة الجبين، واضحة المعالم، سافرة الوجه.
كان هذا وذاك يرجئه عن غايته المتوخّاة، وكانت نهضته العلميّة الدينيّة هذه عاقته أن يولّي وجهه إلى تلك السفرة الميمونة النّاجعة، وكان - أدام اللَّه وجوده - ينتهز فرصة الوقت ويراه قريباً ونحنُ نراه بعيداً، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ﴾4.
وقد أنتجت تلك النّهضة الباهضة، وسعيه المتواصل دون كتابه الكريم دائرة المعارف الإسلاميّة - بعدما شاهد رأي العين حاجة المجتمع الدّيني حائجة وافتقار الملأ العلميّ مأنساً إلى مكتبةٍ عالميّةٍ عامّةٍ كبرى، تحوي وسائل روّاد العلم والفضيلة، وتضمّن رجالات البحث والتنقيب عن التراث العلميّ، كلّما ألّفته يد السّلف والخلف في كلّ علمٍ وفنٍّ بشتّى اللّغات والألسن - فكرة تأسيس «مكتبة الإمام أمير المؤمنينعليه السلام العامّة» في عاصمة الفقه والعلم والدِّين، ومرتكز لواء الخلافة الإسلاميّة الكبرى ومهبط حَمَلة الثقافة من أرجاء العالم من الحواضر الإسلاميّة، ومحطّ رحل العرب والعجم وسروات المجد والنُّبل من مختلف الاُمم.
ولّدت هذه الخاطرة الخطرة رحلاته المتتابعة وراء جمع مدارك كتابه الكريم، وراء مطالعاته العريضة، مهما وجد الأوساط العربيّة مفتقرةً إلى تلك الاُصول الحاوية للثّروات العلميّة، فاقدةً منابع الحياة الروحيّة التي بها تحيا الاُمم، وتتأتّى لها السعادة مع الأبد .
فقام - حيّاه اللَّه وبيّاه - بأعبائها، وشمَّر ساعد الجدّ والاجتهاد لتحقّق أمله ونيل مُناه، وهو أمل المجتمع البشري، وبغيّة كلّ من أسلم وجهه للَّه وهو مُحسن، واُمنية كلّ ثقافيّ يحمل شعور الرقيّ والتقدّم، ومأرَب المُصلِح النّابه الشّاعر بجراثيم العبث والفساد، أحسّ ضرورة المكافحة عن صالح اُمّته، ولبّى دعوته رجالٌ عاملون وجدوا تلك الفكرة السّامية بذرة الحياة، فريضة الخدمة للإنسانيّة، ورأوا النهوض بذلك المشروع المقدّس من الصالحات الباقيات، والموازرة دونه تحفّظاً على الحياة السّعيدة، فمهّدوا له السُّبل بكلّ ما اُتوا من حَولٍ وطَول، حتّى بُنيت لها بنايةً ضخمة فخمة عامرة بنايةً زاهرة، زادت تلك السّاحة المقدّسة بهاءً وجمالاً، وعظمةً وكرامة.
فغدت هذه الهاجسة السامية الثانية بمفردها داعيةً قويّةً إلى الرّحلة المباركة نحو القطر الهنديّ، وكان ذلك قدراً مقدوراً، فحقّق اللَّه أملهُ، وتأهّب للسّفر، وكان من عظيم ما منَّ المولى - سبحانه - به عليَّ أن اختارني لخدمة بطل دينه المدافع الوحيد عن ناموس الإسلام المقدّس، والنّاهض دون العترة الطاهرة، واختصّني بهذه الكرامة، وحَباني بهذه النعمة السّابغة، وغمرني فضل سيّدي الوالد العظيم باستصحابي في سفره هذا، كما كنت أقومُ بخدمته في جلّ رحلاته قبلُ، وذلك ذُخري في حياتي منذ نعومة أظفاري، وبفضله أُباهي وأفتخر، وما التّوفيق إلّا باللَّه، وله الحمد على ما أنعم.
وقد استغرقت هذه الجولة المباركة أربعة أشهر، بدأت بيوم 24 شعبان المعظّم، وانتهت ب 25 من شهر ذي الحجّة الحرام سنة 1380ه ، ولم تمض لنا تلكم الأيّام السعيدة إلّا ونحن نتراوح في خزائن الكتب في مختلف الأمصار.
وقد طلبتْ اُمّةٌ كبيرة من بلاد العرب والعجم - وفي مقدّمتها الهيئة المؤسّسة لمكتبة الإمام أمير المؤمنينعليه السلام - والهيئات التي أُسّست في الحواضر الإسلاميّة لقرّاء الغدير والأخذ من دروسه العالية، نشر تفاصيل هذه السّفرة الميمونة، ونحن وإن لم يسعنا المجال بنشرها والتوجّه إلى جميع نواحيها واستقصائها والبحث عنها على ما يروم ذلك الجمّ الغفير، غير أنّنا نأخذ منها في هذه العُجالة نبذةً يهمّ الملأ الثقافي أن يوقف عليها، ونحيل البحث عنها على وجه يحقّ أن يبحث عنها إلى تأليفٍ مفردٍ يخصّ بها.
ثمّ ذكر - دام إفضاله - عرضاً موجزاً عن الجمهوريّة الهنديّة، وتواريخ ورود والده قدس سره إلى كلٍّ من بلادها، ومشاهدة مكتباتها، واحتفاء أهلها به، واستفادته من المكتبات العامّة والخاصّة، ونسخ جملةٍ وافرةٍ من الكتب المخطوطة الأثريّة التي تضمّها هذه المكتبات العظيمة، ووصفها وصفاً كاملاً، وعدد ما فيها من الكتب باللّغات العديدة، واجتماعهم بعلمائها الأعلام.
وقد وصلوا مدينة كانپور من البلاد الهنديّة في اليوم 21 من شهر رمضان المبارك بعد الزوال بساعة واحدة زواليّة، وفوجئوا بازدحام أفواج المستقبلين وهي تموج في بناية المحطّة الشاهقة العجيبة المدهشة، والفئام من النّاس يهرعون، ومن كلّ صوبٍ وناحيةٍ ينسلّون، زرافاتٍ ووحداناً، وفي مقدّمتهم الجمعيات الدينيّة، وقد بشّر الجميع النبأ السارّ، والبِشر بادٍ في محيّاهم، وهتافات السرور قد عَلت، ودوّخ الفضاء نداء الترحيب بالوافد الكريم، وملأت الجوّ تلكم المشاعر التي كانت تمثِّل ما تنطوي عليه روحيّة أُولئك الغيارى من عقيدة وإيمان، وحُبٍّ صميم، وولاءٍ خالص، وشوقٍ مؤكّد إلى عاصمة العلم والدِّين (النّجف الأشرف) واعتزازٍ صادقٍ بصاحب الشخصيّة العلميّة الكبيرة الذي وجدوه بين ظهرانيهم، وهو يمثّل القيادة الروحيّة بأسمى صفاتها.
وفي ليلة ال 22 من شهر رمضان أقامت الهيئات الدينيّة حفلةً تأبينيّة حافلة بذكرى شهادة الإمام الطّاهر أمير المؤمنينعليه السلام في قاعةٍ كبيرةٍ واسعةٍ جدّاً، أُضيئت كالنّهار بالمصابيح الكهربائيّة، وأحاطت بها مكبّرات الصوت من ضواحيها، وأعلنت الجمعيّات نبأ الحفلة بين أبناء الاُمّة المسلمة على مذاهبها المختلفة بنشراتٍ وُزِّعت في جميع أرجاء البلد، حتّى أن تتاح لعامّة النّاس زيارة بطل الدِّين المناضل، وتلتقط ما ينثر في ذلك الحفل الدّيني بلسان أعظم شخصيّةٍ عالميّة دينيّة، من غرر الْكَلِمَ ، و دُرر الحِكَم، وتصيخ إلى ما يُلقيه هذا المصلح الأمين من خطابه النّاجع، وبيانه المُفعَم بالأوضاح، فكان مشهداً تأريخيّاً عظيماً حافلاً، هُرع إليه النّاس من أصقاع البلد من الطوائف الإسلاميّة وغيرها، دون اختصاصٍ بأهل ملّةٍ ونحلة من الملل والنّحل، إلى أن ازدحم الموضع بالحضور، وحضر فيه جمعٌ كثيرٌ يعدّ بالآلاف رابياً على عشرةٍ كاملةٍ عنها، فلمّا حان الوقت، وانعقد الحفل، واستقرّ الجمع، وتُليت آيٌ من الذِّكر الحكيم، ارتقى شيخنا المتكلِّم الأوحد منصّة الخطابة، وافتتح بالمقال، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وذكر النبيّ الأعظم وآله بالصلاة عليهم، وتلا آية الولاية من القرآن الكريم، ثمّ ألقى دروساً عاليةً حول الإسلام المقدّس وولايته الكبرى، ومرتكز لوائها، وفصّل القول في أنّ الولاية المطلقة العامّة التي لا يشذّ عنها إنسانٌ قطّ، ولم يُستثن منها أحداً إنّما هي ولاية اللَّه جلّ وعلا، وقد قَرَنَ اللَّه بها في مُحكَم كتابه ولاية نبيّه صاحب الرّسالة الخاتمة، وولاية وصيّ عرشه، فقال: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾5، فهي ولايةٌ واحدة ليس إلّا، على سياقٍ واحدٍ، لا تنفكّ ولاية اللَّه عن الولايتين، ولا تفترقان هما عنها، وبذلك أوصى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اُمّته، سنّة اللَّه التي لا تبديل لها، فقالصلى الله عليه وآله وسلم: «أوصي مَن آمنَ بي وصدّقني بولاية عليّ بن أبي طالب، من تولّاه فقد تولّاني، ومَن تولّاني فقد تولّى اللَّه عزّ وجلّ».
وعلى هذا كانت بيعة السَّلف كما قال عقبة بن عامر: «بايعنا رسول اللَّهصلى الله عليه وآله وسلم على أنّ اللَّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً نبيّه، وعليّاً وصيّه، فإن تركنا الثلاثة كفرنا».
وهذه الولاية هي ركن الإسلام، وجوهرة الإيمان، وحقيقة المبدأ المقدّس، وروح الأعمال، لا يقبل اللَّه عمل عاملٍ إلّا بها، ويصحّ سلب الإيمان عن إنسانٍ لا يوالي العترة الطاهرةعليهم السلام وفي مقدّمتهم سيّدهم ومولانا أمير المؤمنينعليه السلام، ولا يتمّ لأمرئٍ فضل التوحيد والتصديق باللَّه وبرسوله له إلّا بها، كما كان لم يتأتّ البلاغ لصاحب الرسالة الخاتمة إلّا بنبأ الولاية العظيم، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾6 وقد أكمل اللَّه بها الدِّين، وأتمّ بها النّعم كلّها، ورضي الإسلام ديناً، يوم نادى بها الصّادع الكريم في مائة ألفٍ أو يزيدون، فالإسلام المرضيّ للَّه ولرسوله هو الإسلام المقرون بالولاية، المنعوت في كتاب اللَّه العزيز بيوم بلاغها، وإلى هذا ينزّل ما جاء في الصِّحاح والمسانيد عن الصّحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان، مثل قول عمر بن الخطّاب ثاني الخلفاء بالانتخاب الدستوريّ: «عليٌّ مولى من كان رسول اللَّه مولاه، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن»، وبقوله: «اعلموا أنّه لا يتمّ شرفٌ إلّا بولاية عليّ».
وقد تفرّغ الشَّيخ للبحث عن الموضوع، وبذل مجهوده في تدعيمه وإقامة الحجّة والبرهنة له، وأفرغه في بوتقة البيان حتّى أعاد السّهم إلى النّزعة بحججٍ ساطعة، وبراهين من الكتاب والسنّة قويّة، وسردَ ما جادت به أقلام أعلام الحديث من رجالات المذاهب الإسلاميّة حول هذه الأثارة من العلم من الكلم الكثير الطيّب، فصرم الحديث وتفرّق الجمع، والقلوب واعية بعدما أصاخ الحضور إلى البحث ساعتين، والكلّ قد قضى منه العَجب، وفتنهم خطر الموقف، وأدهشتهم قوّة العارضة، وأهالتهم عظمة الحديث، وأعجبتهم جَودة السّرد في هذا المرتقى الصّعب، وحيّرتهم سجاحة الكلام، ولطفه ورقّته في مثل هذا الموضوع الغلق، وأثّرت في نفوسهم غرابة المقال ولطافته، وصدّق الخُبر الخَبر.
هذا عرضٌ موجزٌ عن سفرةٍ لم تستغرق أكثر من ثمانٍ وأربعين ساعة قُضيت في كانپور بين ظهرانيّ اُمّةٍ مسلمةٍ بقيت - بعدما غادرها شيخنا - متعطّشةً بتلهّف وشوقٍ إلى الوَعظ والنّصيحة والإرشاد الدّيني».
وهكذا كانت سيرته في كلّ بلدٍ من بلاد الهند التي دخلها، فيعِظ ويرشد ويلقي المحاضرات الدينيّة على أهلها، ويدخل مكتباتها، ويطّلع على مخطوطاتها ويستنسخ ما يروق له منها ممّا يتعلّق في موضوع كتابه الغدير، فكان يدخل إلى بعض المكتبات مثابراً على المطالعة والكتابة والاستنساخ كلّ يوم بين إحدى عشرة واثنتي عشرة ساعة لا يكلّ ولا يملّ، شأن الرِّجال الذين صرفوا أعمارهم في سبيل الثقافة الإسلاميّة وخدمة الدِّين الحنيف ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ﴾7.
ووجدتُ بخطّ شيخنا الأميني طاب ثراه - وصفاً رائعاً للمكتبة الناصريّة في لكهنؤ زارها، كتبه بتاريخ 24 ذي القعدة الحرام سنة 1380ه ، وهذا نصّه:
بسم اللَّه الرّحمن الرَّحيم، وللَّه الحمد
كان لمكتبة الناصريّة العامرة في هواجس ضميري مثالٌ ما أعظمه وأكبره منذ وقفت على تآليف مؤسّسيها أبطال العلم، وحجج المناظرة، وآيات الحِجاج، وأعلام الدِّين، ورجال المذهب، من تشييد المطاعن و عبقات الأنوار و استقصاء الإفحام إلى آثار ومآثر خالدة مع الأبد، المزدانة بها مكتبات الدُّنيا، وكنتُ أغدو وأروح وشوقي إليها فادح، أنتهز الفرصة، وأتشوّق حيناً بعد حين إلى أن أُتيح لي السّفر إلى ديار الهند، وزيارة مكتباتها المفعمة بالنفائس، منّاً مِن اللَّه تعالى وله الشُّكر وألف شكر، فبدأت بزيارة هذه المكتبة الزّاهرة، وألقيت عصا السّير في لكهنو شهر رمضان من سنتنا هذه سنة 1380ه ، فغدوت أختلف إليها وأصرف دون الاستثمار من خطّها اليانع ليلي ونهاري، وأقضي في البحث عمّا فيها من الثَّمر الشهيّ جُلَّ وقتي، فوجدتها ثروةً علميّةً طائلةً إسلاميّةً، جَمَعَتْها يد الهمّة القعساء والقدرة والكرامة، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه، فما شاهدت طيلة حياتي - حتّى الآن مع كثرة ما شاهدتُ من المكتبات الحافلة في أمصار الشرق وأرجاء البلاد الإسلاميّة - مكتبةً كهذه جامعةً لنفائس الآثار، ونوادر الأسفار، حاويةً للتّراث العلمي من شتات كلّ علمٍ وفنٍّ.
وإنّي وإن أقدر جدّاً جميع مكتبات هذه القارّة وتعجبني مكتبة علي گره ورامپور و پتنه، وفي كلٍّ منها نوادر وغرر تخصّ بها، وفيها آثارٌ قيّمة هي نواميس الإسلام المقدّس، ومآثر باقية من آثار السّلف الفطاحل - غير أنّ مكتبة الناصريّة هي أعظمها خطراً، وأجمعها أثراً، وأهمّها مكانةً، فسلام اللَّه على سلفٍ صالحٍ أسّسها، وعلى خلفٍ بارٍّ يُقيم إودها، ويدير شؤونها، ويتحفّظ عليها، ويبذل الجهد في توطيدها.
والذي يورث الهَمّ، ويجلب الغَمّ، ذهول هذه الاُمّة المسلمة الذّاهلة عن صالحها عن العناية بهذه المكتبة الفخمة، وبغيرها من المكتبات في هذه المدن، إلى جوّها البارد، ولعمري لو كان عُشر هذه الآثار في إحدى مكتبات الغرب لكانت الدُّنيا ملآنةً بصخب الدّعاية إلى أهلها، ونعرات الاعتزاز بها، والتفاني دونها، وإذاعة إكبارها وإعظامها، وكانت تأخذ في المجتمع العلمي الثقافي العالميّ أهميّةً كبرى يشغل ذويها صفحات الصّحف، ويعمّ حديثها الجرائد والمجلّات، وتسمع أُذن الدُّنيا ذكرها من الإذاعات العالميّة، غير أنّها بيدنا ونحن نحن وحظّنا في المجتمع معلومٌ محدودٌ :
في فيَّ ماءٌ وهل
ينطق مَن في فِيهِ ماءُ
فأسأل المولى - سبحانه - أن يقيّض من الاُمّة مَن يشعر قيمة هذه الثروة الغالية، ويحمل بين جنبيه روح العمل، ونشاط النّهضة، والحركة العلميّة، والسّعي وراء صالح الاُمّة، ويقوم بواجب خدمتها، حتّى يتأتّى لروّاد الفضيلة الأخذ من هذه الذّخائر الثّمينة التي فيها الحياة الروحيّة، وتقدّم الإنسانيّة السامية، ورُقيّ أبناء القرآن الكريم، وإعلاء كلمة التوحيد، كلمة العدل والصّدق، وليس على اللَّه بعزيز، والحمدُ للَّه أوّلاً وآخراً.8
***
اعتزم - طاب ثراه - على الأوبة إلى وطنه العزيز - عاصمة العلم والدِّين (النّجف الأشرف) مشهد سيّد المسلمين، صنو النبيّ الأعظم، أمير المؤمنينعليه السلام، ومرتكز خلافته - في الساعة السابعة بعد ظهر يوم 19 ذي الحجّة الحرام، فغادر بمبئى بطائرات الخطوط الجويّة الإيطاليّة إلى كراچي ومنها بعد استراحة ساعة إلى طهران، ومنها بعد وقفة سويعات إلى بغداد، ومنها إلى النّجف الأشرف، وتمّت السفرة المباركة أربعة أشهر.
كان هذا عرضاً موجزاً لرحلة شيخنا الأكبر، شيخ الفقاهة والتأليف المجاهد الأميني إلى الدِّيار الهنديّة للوقوف على كنوزها الإسلاميّة القيّمة ومكتباتها العامّة العامرة المشحونة بالنفائس والآثار القديمة، وقد اقتصرنا منها على هذا الوجيز اليسير.
وقد أورد هذا الموجز من الرّحلة الهنديّة شبل الأميني البارّ الاُستاذ الشَّيخ رضا - دام فضله - في صحيفة المكتبة - العدد الثالث المطبوع، فحيّاه اللَّه وبيّاه ووفّقه لمراضيه، وجعل مستقبل أمره خيراً من ماضيه.
ثمّ سافر - طاب ثراه - إلى سوريا، وقد أورد تفصيل رحلته إليها في كتابه سيرتنا وسنّتنا، ونحنُ نقتطف موجزاً منه، قال رحمه الله :
أُتيحت لنا في سنتنا هذه (1384ه)، زيارة ديار الجمهوريّة العربيّة السوريّة، وأقمنا بها أربعة أشهر، واستفدنا من مكتباتها العامرة القيّمة المشحونة بالنّوادر والنّفائس من التراث العلمي الإسلامي من الكتب المخطوطة بخطوط حفّاظ الحديث و أئمّة الفقه والتفسير، ورجال العلم والفضيلة والأدب، واتّصلنا من أساتذتها ورجالها الأفذاذ بأُناسٍ لم نقارقهم إلّا مُعجبين بملكاتهم الفاضلة، ونفسيّاتهم الكريمة، وحسن طويّتهم، وجميل عشرتهم ومحاسن أخلاقهم.
ونزلنا بحلب الشّهباء إثنين وعشرين يوماً، وكنّا نسهر في كلّ تلكم اللّيالي محتفلين، والحفل مكتظٌّ بوجوه البلد والأساتذة وروّاد الفضيلة، وأبناء الدِّين، وكانت ترِد إلينا أسئلةٌ هامّةٌ في مواضيع دينيّة، وأبحاث علميّة ناجعة، نبحث عنها بصورةٍ صافيةٍ بجميع نواحيها، وربما كان يستوعب البحث من الساعة الثامنة الزواليّة إلى الساعة الواحدة أو أكثر بعد نصف اللّيل.
ثمّ ذكر - طاب ثراه - الأسئلة التي وردت إليه والجواب عنها بصورةٍ مفصّلةٍ، طُبع هذا الكتاب في النّجف الأشرف سنة 1384ه ، واُعيد طبعه ثانياً بطهران في سنة 1386ه في 144 صفحة، وترجم إلى اللّغة الفارسيّة، وطبعت ترجمته في إيران سنة 1388ه .
وحديث رحلته الأخيرة - هذه - إلى سوريا سنة 1384ه لو جُمعت نوادرها وشتاتها، وألّفت مقالاتها ومقاماتها، وسجّلت رسالاتها وخطاباتها لجاءت كتاباً مفرداً مفعماً بالطّرائف والظّرائف، وقد أخذ أبناء تلك الاُمّة العربيّة المسلمة وأساتذتها ورجالها النُّبلاء دروساً عاليةً ناجعة من علمه المتدفّق، ومحاضراتٍ طائلةً حول أبحاثٍ قيّمة تقصر عنها باع كثيرٍ من حَمَلَة العلم والدِّين، أخذت بمجامع قلوب سامعيها، وولّدت في نفوسهم رغبةً عظيمةً في علوم الولاية المطلقة العامّة، خصيصة آل اللَّه أهل البيت الطاهر عليهم السلام.
وقد أُقيمت له حفلاتٌ تكريميّةٌ حافلةٌ في دمشق وحلب ومعرّة مصرين والفوعة وكفريا ونبّل، وساهم فيها جلّ رجال تلكم الدِّيار الأماجد، وقد ألقيت في تلك الحفلات كلماتٌ عسجديّة نظماً ونثراً في الثناء عليه، والإعراب عن مبلغه من المقامات والكرامات، كلّها مسجّلة في كتابه سيرتنا وسنّتنا.
وقد بعث كثيرون من أعلام السُّنة ورجال الطائفة من هذه البلاد كتباً إليه بعد أوبته من سوريا، تعرب عمّا أثّرت رحلته الكريمة في نفوس أهليها، توجد نصوصها - اليوم - عند ولده البارّ الشَّيخ رضا الأميني.
هكذا فليكونوا رجال التبليغ والإرشاد والدّعاية إلى اللَّه تعالى وإلى دينه القويم ونشر رسالة النبيّ الأعظم والأئمّة الطاهرين صلوات اللَّه عليهم.
جدّه و والده
أمّا جدّه المولى نجف علي، فكان مشهوراً بأمين الشَّرع، ومن هنا اتّخذ شيخنا الحجّة الأميني هذه النسبة إلى جدّه المذكور، وكان من أهالي آذربايجان، وكانت ولادته سنة 1257 ه ، وتوفّي سنة 1340ه ، وكان من الاُدباء وأفاضل أهل العلم ديناً و ورعاً، ذا نفسٍ عاليةٍ، ومولعاً بجمع أخبار الأئمّة الأطهارعليهم السلام، وقد ألّف مجموعةً في ذلك، كما أنّه كان شاعراً في اللُّغتين الفارسيّة والتركيّة، وهي موجودة عند أولاده النّجباء.
وأمّا والده الشَّيخ ميرزا أحمد فقد ولد في قرية سردها من نواحي تبريز سنة 1287ه ، وفي أوائل عمره بقي في تلك القرية، وفي سنة 1304 ه جاء إلى تبريز لتكميل دروسه، فأخذ بعض المقدّمات من أُستاذه المرحوم العلّامة الميرزا أسد اللَّه، المتوفّى في طهران سنة 1325ه ، أو سنة 1326ه ، وهو ابن الميرزا محسن التبريزي صاحب الحاشية على المكاسب، ثمّ حضر على علماء عصره، وكانت له شخصيّةٌ علميّة في تبريز، وقد شهد له الزّعيم الكبير آية اللَّه الميرزا علي آغا الشيرازي الغرويّ المتوفّى سنة 1355ه ، والعَلَم الفقيه الميرزا علي الإيرواني الغرويّ المتوفّى سنة 1354ه ، بالعلم والفضل.
وقد اجتمعتُ به في النّجف الأشرف في سنة زيارته لها، وكان من المعروفين بالورع والصّلاح وحسن السّيرة، وقد توفّي في طهران في 29 ربيع الأوّل سنة 1370 ودُفن بقمّ.