الطرق المؤدية من البصرة إلى حلب عبر الصحراء
ان اقصر طريق من البصرة إلى حلب تمر في الصحراء، غير اننا نصادف في الطريق قبائل عربية كثيرة، تدعي كل منها السيادة، و الحق في المطالبة بهدايا من الرحالة؛ لهذا السبب لا يجتاز احد هذه الطريق الا برفقة قافلة كبيرة. خلال اقامتي في البصرة، كانت الاعمال التجارية ضعيفة للغاية، و عدد التجار الذين يسافرون في القوافل ضئيلا للغاية. لذلك اضطررت لسلوك طريق آخر. و لما اتيحت لي فرصة التعرف على بدوي قطع عدة مرات الصحراء من البصرة إلى حلب، سأذكر لكم المناطق الواقعة على هذه الطريق، كما سمعتها منه.
يبدأ الطريق بمنطقة زبير، كويبده شكره، الخفة، القصير (قصر متداع) وادي ابو المريس عيون صيد، و هي عبارة عن بركة بنتها زوجة احد الخلفاء، الغضاري، جرتمي، القايم أو الالتلة، رهامة، في جوار مشهد علي، الطقطقانة، أو الحباضة، الحسين، الاخيضر (حصن قديم تحدثت عنه سابقا) رأس العين، تمبل، الكبسة، عقلة، حوران، تغب الجاموس، المانغي، الرتقة، البردان، رشبا، (حصن قديم على الفرات) جب غنم، الحمض، جبل بشير، العزمة، الطيبه، (دمرت القرية التي تحمل هذا الاسم منذ ٢٠ أو ٣٠ سنة)، قصر الشوان، قاع، ابو الفياض، عنز الروثة، صهاريج، جبل شبيبة، لحاس، حقلة عين سفيرة، أو عين ذهب، حلب
و إذا كان هذا الطريق محفوفا بالمخاطر سلكت القوافل طريقا مختلفا، على ان تتزود بكمية كافية من المياه، فتعبر بعد مغادرتها البصرة، الزبير، و كوبيدة، و شكرة، و الخفة، و الكوس، و سلمان و الأثله، و قطري، و البذي، و حجرة، محبوز و القعر، و صواب، و الصرايم، و الضخه، و بير قديم، و ابو الفياض و الحمام، و جبل الاحص و حقلة و سفيرة و حلب في طريقها من بغداد إلى حلب، تعبر القوافل في عقرقوف، و الهيس، و الفلوجه، و الوحلة، و ام الروس، صبنديج، هيت، المعميرة، عين الارنب و عقلة حوران.
مما لا شك فيه ان الرحلة في الصحراء ليست مزعجة أو محفوفة بالمخاطر، خاصة ان كان السلام يسود بين القبائل العربية، أو بينها و بين الاتراك، و ان كان قائد القافلة رجلا شريفا و ان كان المسافر يفهم لغة البلاد، و يحبذ طريقة عيش الشرقيين. لاحظ القارىء، في الصفحات السابقة، ان الحروب تنشب بسرعة في هذه البلاد، و تنتهي احيانا بالسرعة نفسها. فحين نغادر احدى المدن، يخطر لنا ان رحلتنا آمنة تماما، و غالبا ما نصادف في منتصف الطريق اعداء على خلاف مع الشيوخ المقيمين في الجوار أو مع الباشاوات الاتراك، و يتوجب حينها على قائد القافلة ان يتفق مع العرب بطريقة ملائمة حتى نمر بسلام. مما لا شك فيه ان أكثر الرحلات أمانا هي تلك التي نقوم بها مع عرب بني كلب، الذين ينقلون كل سنة عددا كبيرا من الجمال إلى حلب، بهدف بيعها.
كما و ان السفر برفقة قوافل التجار، التي يترأسها أحد اعيان البصرة، ليس محفوفا بالمخاطر، فهذا الاخير سافر كثيرا في صباه، و تعرف على شيوخ القبائل كافة، مما ساعده على تأمين الحماية الكاملة للمسافرين. أما القوافل التي يقودها احد الاتراك، و خاصة تلك التي تذهب من بغداد إلى دمشق و الى مكة فهي مكلفة و شديدة الخطورة. غالبا ما يبيع الباشا منصب قائد القافلة إلى الشخص الذي يدفع اكثر، ففي تلك السنة، دفع احدهم ٤٠ ألف ريال لتسلم قيادة قافلة حجاج بلاد فارس، الذين يبغون السفر من بغداد إلى دمشق بعد مرور ثلاثة اسابيع، دفع شخص آخر عشرة آلاف ريال، و حظي بالمنصب المذكور. يتوجب على هذا الشخص ان يجند عددا كبيرا من الرجال، و تقديم الهدايا للقبائل العربية، التي يصادفها في طريقه، اما المسافرون، فيشاركون في هذه الاعباء، علاوة عن دفعهم مبلغا محترما لقائد القافلة. و يروى ان بعض قادة القوافل، يتفقون مع العرب ليهاجموا القافلة و ينهبوها. و أكد لي كبار التجار ان قادة القوافل الاتراك يتسببون في معظم الاحيان بتعرض القوافل للنهب، على يد العرب، و قد اعطيت مثالا على هذه الاعمال في كتاب وصف شبه الجزيرة العربية. أخبرني شخص سافر في قافلة مماثلة، ان التجار اجبروا على دفع مبلغ كبير من المال، قبل انطلاق القافلة، و تعهد القائد في المقابل، بأن يوصلهم إلى وجهتهم بسلام.
غير انه شاهد بعض العرب من بعيد، و اسرع للقائهم مع عدد من رجاله في هذه الاثناء، كان يجدر بنا الانتظار دون ان يتجرأ احد على اطلاق النار على العرب، رغم انهم كانوا يقتربون من القافلة و يهددون بنهبها. دامت المناقشات بين القائد و الشيخ وقتا طويلا، فكانا يتبادلان التهديد بحمل السلاح، و كافة انواع الشتائم و في نهاية المطاف، توصلا إلى اتفاق في ما بينهما، و اجبر قائد القافلة كل مسافر على دفع مبلغ من المال لمتابعة الرحلة. و الجدير ذكره ان الرحلة في الصحراء شديدة الخطورة على اهل الشيعة، اذ تفرض عليهم ضريبة أكبر من اهل السنة، و يسيء الملحدون معاملتهم إلى اقصى حد.
أتى بعض المسافرين على ذكر مركز الحمام الذي كان يستعمل قديما في البلاد الشرقية و هي تكثر في مدن مختلفة، و لكن من الصعب ان نصدق اننا نستطيع ارسال الحمام إلى كافة المناطق شأنها شأن اي رسول آخر؛ و لما كانت هذه المنطقة تفتقر إلى مراكز بريد محددة. درّب التجار الحمام لإبلاغ عائلاتهم بعودتهم سالمين من سفرهم. قابلت في البصرة تاجرا من بغداد، اعتاد على استعمال مراكز الحمام هذه في رحلاته كافة. فقد ترعرع الحمام في منزله و اعتاد على تناول طعامه في مكان محدد، كما و انه كان يتنقل على حريته، من مكان إلى آخر و يتعرف على المناطق المجاورة. في رحلته الاولى، اصطحبه معه إلى الحلّة، و في الثانية إلى لملم، و في الثالثة إلى ارج، و اخيرا إلى البصرة، حيث ارسله إلى منزله بعد ان علق رسالة صغيرة بقوائمه. و الجدير ذكره ان الحمام الذي يترك صغاره في المنزل يعود مباشرة اليه. و يزعم ان افضل نوع حمام هو البغدادي، و لكنني لا أشك ان الحمام الاوروبي اهل للتدرب على هذه المهمة. و قد قيل لي ان احد الايطاليين كان يستعملها ليعرف الأرقام التي استعملها مواطنوه في اليانصيب. و ما لا شك فيه اننا لا نحتاج مطلقا لهذا النوع من الحمام، لأننا نستطيع بعث الرسائل إلى أي بقعة في الارض، و بأقل كلفة ممكنة.
يقول الكسندر هاملتون (**) انه تكثر في منطقة البصرة شرقي و غربي الفرات، الغربان السوداء و البيضاء التي تتدافع و تتقاتل. و قد شاهدت بأم عيني غربانا سوداء و رمادية على ضفتي النهر، و لكن العرب لا يعتقدون ابدا ان الغربان السوداء و البيضاء قد اتخذت من الفرات حدا لها. الرحلة من البصرة إلى لملوم و مشهد علي، و مشهد الحسين، و الحلة، و بغداد للانتقال من البصرة إلى بعداد، هناك طريقان، الاول عبر دجلة و الثاني عبر الفرات، و لا يستخدم المسافرون الطريق الاول عادة، لطول المسافة بسبب تعرجات النهر الكثيرة، في حين ان الفرات لا تعرجات فيه، فضلا عن اننا نصل على هذا النهر حتى الحلّة و منها ينتقل المسافر مباشرة إلى بغداد برا، مما يجعل، الدرب أقصر، و نجد على الفرات محطات أو منازل، فحين يودّ المسافر أن يرتاح يظهر إذن الحاكم الذي يحمله، و يمكنه أن يتفق مع أناس في محطات مختلفة ليسحبوا مركبه، بأسعار معقولة، فيصل إلى الحلّة بهذه الطريقة في عشرة أيام على الأكثر.
و يجب أن يتمتع المسافر بصحة جيدة ليقوم برحلة كهذه في الشتاء، و بما أن قطاع الطرق يكثرون على هذا الدرب، لا يستخدم هذه المحطات إلا رجال الحكومة الذين لا يتجرأ العرب على المساس بهم، فضلا عن أناس على عجلة من أمرهم و لا يحملون معهم سوى حاجاتهم الضرورية. أما أنا فانتظرت وصول مركب صغير ينقل بضائع إلى الحلّة و استأجرت المقصورة لنفسي و غرفة صغيرة لخادمي.
حين صعدت على متن المركب، وجدت في الغرفة المذكورة، ضابطا من الانشكاريين يعاني سكرات الموت و يريد الوصول إلى الحلّة، و هي رفقة لم أكن أتمناها في رحلتي سيما و أني لا أعرف المرض الذي يعاني منه. لكن صاحب المركب كان قد قبض ماله سلفا، و أقنع خادمي، و هو مسلم من البصرة، بالتنازل عن مكانه و البقاء على سطح المركب، و كي لا أكون أقل انسانية تجاه هذا البائس من المسلمين الذين كانوا ليكرهونني لو طردته، سررت لقرار خادمي و قررت أن أسلم امري للقدر.
كانت الرحلة شاقة بالنسبة لجاري المريض، و بما أني اعتدت العيش بين العرب، لم أستأ من القرار الذي اتخذته بشأن السفر على متن هذا المركب (*). استغرقت الرحلة ٢١ يوما أيّ من ٢٨ تشرين الأول/ أكتوبر إلى ١٩ كانون الأول/ ديسمبر حيث وصلنا لملوم و غادرت المركب، و هي رحلة طويلة لكنها اتاحت لي فرصة القيام بدراسات فلكية عدة، ساعدني خلالها المسافرون الاخرون اذ تحلقوا حولي بثيابهم الطويلة لرد الهواء حين كنت أضع ساعتي الشمسية على الشاطىء.سجلت ارتفاع القطب في أماكن عدة مررت بها و هي:
في البصرة كما أوردت سابقا ٣٠ ٣٠
في الاول من كانون الأول/ ديسمبر قرب المنصوري ٣٠ ٥٢
في الثاني من كانون الثاني/ يناير في أبادا ٣٠ ٥٥
في الرابع من كانون الثاني/ يناير في كعد ٣٠ ٥٨
في السادس منه في أرجة ٣٠ ٥٩
في ١٢ كانون الثاني/ يناير في غريم ٣١ ١٧
في ١٦ كانون الثاني/ يناير قرب السماوة ٣١ ١٩
في ١٨ كانون الثاني/ يناير في منطقة أبو حروق ٣١ ٢٨
في ١٩ كانون الثاني/ يناير قرب لملوم ٣١ ٤٣
ثم في الحلّة ٣٢ ٢٨
و بما أن الفرات لا يجري في هذه المنطقة مباشرة من الشمال إلى الجنوب انما من الغرب إلى الشرق، يصعب تحديد طول المسافة لا سيما حين نسافر بعكس التيار حيث يدفعنا الجزر غالبا إلى الامام، و المدّ أو الرياح المعاكسة إلى الخلف (*). زد على ذلك، أننا اضطررنا إلى سحب المركب لأن منسوب المياه منخفض للغاية فلمسنا القاع، فلم ير البحارة المساكين بدا من النزول إلى المياه و العمل جاهدين لتخليص المركب. و في أحدى المناطق التابعة لقبيلة بني حجيم(Hackkem) ، وضع السكان سدا لتحويل المياه لريّ مزروعاتهم فلم نجد سوى ممرّ ضيّق للغاية يعظم فيه التيار فأمضينا نصف نهار حتى تمكنا من المرور بمركبنا. و لم أتمكن من تحديد المسافة بدقة إلا استنادا
(*) نجد على الفرات مدا و جزرا حتى ارجة اي على مسافة ١٤ ميلا بعد القرنة(Korne) ، و على بعد حوالي ٢٨ الى ٣٠ ميلا من الخليج الفارسي، لكن لا نلاحظ وجود مد و جزر على دجله بعد ااعزير(Ozer) و هي قرية تحمل اسم النبي عزرا(Esra) ، و يزور فيها اليهود اليوم قبرا للتبرّك.
إلى المحطات التي نجد فيها اناسا يسحبون المراكب و هي ١٢ محطة من البصرة إلى القرنة(Korne) ، و ٧ من القرنة إلى المنصوري، و ١٢ من المنصوري إلى كعد، و ٢ من كعد إلى العرجا، و ١٤ من العرجا إلى السماوة، و ١٨ من السماوة إلى لملوم، و ٧ من لملوم إلى الديوانية، و ١٤ من الديوانية(Diwanie) إلى الحلّة، و استنادا إلى ملاحظاتي، تبعد المحطة عن الاخرى دقيقتين و نصف إلى ٣ دقائق أي حوالي ٣/ ٤ الميل، و انطلاقا من هذا و من تسجيلي لارتفاع القطب، وضعت خرائط خط السير على اللوحتينXL وXLI التي يمكن للقارىء أن يميّز عليها مجرى الفرات من الحلّة و حتى الخليج الفارسي.
نجد بين البصرة و بغداد العديد من القبائل العربية، تدفع كلها ضرائب للباشا، أما أولها فقبيلة المنتفق(Montefik) التي ذكرتها سابقا في وصفي لشبه الجزيرة العربية. و بما أن القرى و المدن الصغيرة الواقعة إلى غرب شط العرب و الفرات من البصرة و حتى العرجا ملك لها فضلا عن تلك الواقعة إلى شرق هذا النهر انطلاقا من القرنة في الشمال، تقيم القبيلة لأشهر في نهر عنتر، و تهيم في الصحراء مع قطعانها قسما كبيرا من السنة، حيث تعيش في الخيام كغيرها من البدو. و غالبا ما جعلت هذه القبيلة الدرب على الفرات و في الصحراء غير آمن، حتى انها حاصرت بغداد أحيانا، لكنها تنسحب إلى عمق الصحراء حيث لا يتجرأون على ملاحقتها ما أن تعلم أن الباشا أرسل الجيش لمقاتلها.
و لم يعاقبوا يوما و عاقبهم سليمان كخيا(Kichja) الذي أصبح في ما بعد باشا بغداد، و الذي اعتاد و عمه احمد باشا الشهير اصطياد العرب، اذا صحّ التعبير، أيّ انهما يهاجمان القبائل بغتة. لذا كانت الطرقات آمنة أثناء حكمهما. أسر أحمد باشا يوما الشيخ سعدون أخ الشيخ عبد الله، الحاكم الحالي، لكنه عاد و أطلق سراحه مع تنبيهه بوجوب دفع الضرائب و الابتعاد عن المشاكل. و بعد فترة وجيزة، ثار ثانية، فأرسل احمد عندها صهره سليمان كخيا لقتاله مع بعض الرجال، فشن هذا الاخير هجوما مفاجئا عليه و أسره. و لا زال العرب يمدحون العنفوان الذي أظهره شيخهم في هذا الموقف، اذا دافع عن نفسه طويلا برمحه ثم بسيفه و بعدها بالدبوس (سلاح يشبه المطرقة يحمله العرب في سرجهم) و اخيرا بلجام جواده و ركابه، لكن من دون جدوى. و كان سليمان قد تلقى الامر بإعادة سعدون اسيرا إلى بغداد، و بصفته منتصرا طالب المغلوب ببعض الاحترام و الخضوع، لكن العربي الابي، المولود حرا رفض الخضوع، و أحصى سلالة اسلافه و سأل الكخيا كيف يمكن لشخص مثله لا يعرف اباه (أنه جيورجي، بيع في صباه كعبد) أن يطلب من نبيل عربي ان يبذل نفسه؟ و أغضب هذا الكلام سليمان فقطع رأس الشيخ و أرسله للباشا كدليل انتصاره، و رأى المشايخ الآخرون ان من الفطنة الخضوع له. و في يوم من الايام، قصد حوالي ١٨ شيخا من هذه القبيلة الباشا ظنا منهم انهم تصالحوا معه، و رأى هذا الاخير ان الفرصة لن تتكرر فأمر بقطع رؤوسهم جميعا (*)، و هكذا ضعف نفوذ قبيلة المنتفق و لم تتجرأ حتى اليوم على العصيان. و يقال إن أحمد باشا الذي يقدر القيمة الشخصية حتى لأعدائه غضب من تصرف صهره، لكن غالبية الاتراك تعتبر حملة سليمان هذه دليلا على شجاعتهم في حين أن العرب ينظرون اليها كعمل جبان و وحشي.