رسالة sms
توقيت سري لمنور ناهض الخياط
في الأفق البعيد ، ثمة نقطة من الضوء الواهن ،لذا كان علي التحديق بشدة كي اعرف ماهيتها ومكانها ، وحين كانت أذناي متوثبتين لالتقاط أصوات مزامير السيارات ، وصراخ بائعي الثلج ، وتجار الأثاث العتيق ، فان نقطة الضوء سرعان ما تختفي ، فكان لزاما أن أغلق بقية الحواس كي استوضح رؤياي ،فقد استطيع إيصال خيط بيني وبين نقطة الضوء تلك .
وبعد التمعن أدركت سرها ...
أنها دعوة من نفسي التائهة عني ، والتي التقي بها أحيانا في مسارات الزمن المر للولوج معا في عالم الذكريات بعد أن هدني تعب الماضي ، وهم الحاضر ، وكوابيس المستقبل .
ما أن أدركت السر حتى توهجت نقطة الضوء ، وثمة همس خفيف في مسامع الروح يقول لي :
ـــ لنعد إلى البداية الأولى .
أجبته على الفور :ـــ لنعد .
وحين عدنا للبداية وجدت نفسي أني لم اخلق بعد ...
كان أبي فلاحا ذا بؤس شديد وزير نساء ، لكنه في الليلة الأولى من عرسه لم يستطع أن ينجز مهمته التي كان الجميع ينتظرون منه انجازها وهم واقفون عند باب غرفته . بدا الجميع مندهشين لما حصل رغم أن الأمر لا يخلو من الفكاهة والسخرية ، وشماتة البعض أيضا .
وذات مرة حين كان أبي في الحقل تسارعت نبضات قلبه وهو يرى ثورا ينال من بقرة ،حينها انسل من بين أبيه وإخوته مطلقا العنان لساقيه صوب الدار .
لقد استطاع أبي أن يسرق بعضا من الوقت المعلن للعمل ، وبسرية تامة تمكن من إطفاء شهوته بمهارة عالية ، وكانت الحصيلة منذ وهلتها هي أنا .
لقد كنت ثمرة مهمة سرية تزاوج فيها الوقت والعمل بتنسيق دقيق ، وتحت سقف غرفة قال عنها الجميع أن عتبتها عتبة (فقر) نتيجة الفشل الذي مني به والدي .
وبما أن السرية قد لعبت دورا بتكويني ، لذا كنت طفلا عاشقا للأسرار ، جاعلا لحياتي منهجا من الغموض ، فغالبا ما كنت اختلي مع نفسي في الباحة الخلفية للدار مطلقا العنان لمخيلتي حيث اخلق لذاتي كيانا آخر أكون فيه البطل القوي الذي يتغلب على عصابة كبيرة بيديه المجردتين .
وذات يوم ، ودون أن ادري تغير كل ما يدور في ذهني من قصص البطولة والمواجهة مع الأشرار ليحل محلها لقاءات العشق والهيام مع أجمل النساء اللواتي يظهرن على شاشة التلفزيون أو في أغلفة المجلات .
في الوقت المحدد للعبة العشق تلك كنت انسل تحت الغطاء حيث ينساب العالم طائعا بين يديك وكأنك قد ملكته ، انه عالمك ، مملكتك ، ولك أن تختار ما تشاء من الأموال والقصور والنساء ، وتنتقل كريشة في الهواء إلى أي مكان تحب أو إلى أي حضن تريد .
لم أتصور أبدا أن للوقت السري مديات أخرى غير التي عرفتها سابقا ، حتى وصلت في دراستي إلى المرحلة الإعدادية ، وهناك كانت الساحة مليئة بالتوجهات السياسية والفكرية ،وقد تمكنت أحدا هذه التوجهات من استقطابي ، وجعلتني عنصرا ناشطا في صفوف حركتها . لقد كنت اشعر بمتعة كبيرة في العمل السياسي ، خاصة أن الحركة كانت دقيقة للغاية في تحركات أعضائها ، فالحفاظ على سرية العمل من توقيت وحركة وحتى همس هي أول المهام التي تؤكد عليها الحركة.
قبل أن أكمل مرحلتي الجامعية وبتوقيت سري من أجهزة الأمن تم اللقاء القبض علي ...
في المعتقل وبلحظة عابرة ، تبدو لك الحياة بأنها سقيمة ،وعمرك قد ضاع هدرا ،وانه مقبل على الضياع .
في المعتقل لا مكان للسماء ، فكل ما يجثم فوق راسك هو سقف أسمنتي بلون رمادي متسخ ، وحتى الهواء لا يجرؤ على الدخول لئلا يختنق .
في الزنزانة كان معي رفيق لي في التنظيم ذاته يعاني من مرض القلب ...
قبل أن يموت حملني رسالة شفهية لخطيبته ، يقول فيها بأنه يحبها ولن ينسى حبها ، وعليها أن تجد شخصا آخر تحبه ويحبها .
مات رفيقي وخرجت أنا ، بحثت عن الفتاة فلم أجدها ، أو استطيع القول بصراحة باني نسيت أن أتابع البحث ، وبذلك ضاعت رسالة رفيقي بين دهاليز نفسي التي تاهت مني بعد خروجي من المعتقل .
لم أتصور أن قلبي سيمرض يوما وان يتم إخضاعي لعملية جراحية ، وبينما كانت المشارط تمرح على جسدي رأيت رفيقي الذي مات في المعتقل يقول لي مبتسما :
ـــ هل أوصلت الرسالة ؟.
ـــ لا .
ـــ أذن أرجوك أن توصلها فهي ما زالت تنتظر .
ـــ ولكني قادم إليك .
ضحك رفيقي وهمس في أذني :ـــ ما زال توقيت رحلتك الأخيرة سريا عليك إيصال الرسالة ، تلك مهمتك الأولى بعد العودة .
صدقوني كنت انوي أن اتبعه فقد مللت من كل شيء ، ولكني فقدت أثره ، كان بصري موزعا بين تتبع أثار رفيقي والتحديق في دائرة من الضوء ذات بريق مدهش والتي يتداخل معها بين الحين والأخر حزمة من الألوان الزاهية ، وبعد التمعن بها عرفت أنها نافذة الحياة ، فما أن تطل براسك من خلالها حتى تعصف بك الأحزان ، ويسكنك اليأس طيلة عمرك .
لحظتها دب في جسدي نبض ...
تلمست الجهة اليسرى من صدري ، أدركت بان رسالة رفيقي المفقودة بين طيات ذاكرتي قد عادت تنبض بالحياة من جديد ، تدعوني للعودة أليها مرة أخرى ، لذا قررت العودة .
حين فتحت عيني قال لي الطبيب مبتسما :ـــ حمدا على سلامتك ، الحقيقة انك قد مت ، ولكن كيف عدت إلى الحياة ؟ ، هذا ما لا استطيع أن افهمه .
فأجبته بصوت خافت :ـــ هناك من ينتظرني ، وفي القلب متسع للحب ورحلتي الأخيرة ما زال توقيتها سريا .
