اتفق أغلب المؤرخين والكتاب ــ قديماً وحديثاً ــ على أن غزو المغول لبغداد قد مُهِّد له من الداخل, وأن هناك أسباباً وعوامل هيّأتها جهّات متنفّذة من داخل البلاط العباسي بصورة مباشرة أو غير مباشرة ساعدت على دخول هولاكو إلى بغداد وأدت إلى النكبة العظيمة التي حلت بها.
ولكن الجديد في هذا الموضوع هو الاختلاف الذي كشفته الحقيقة عمّا سبق من القول فيه، ويدور هذا الاختلاف حول هوية الممهّدين والمسبّبين لهذا الغزو الذي تمخض عن مجزرة بشرية تقشعر لها الأبدان جرت فيها دماء مئات الآلاف من الأبرياء وأدت إلى خراب مدينة وإبادتها بالكامل ولم يسلم من هذه الإبادة حتى الأطفال الرضَّع والنساء والشيوخ والعجائز فضلاً عن الرجال والشباب.
فالذي روّجت له المصادر التاريخية التي ارتكز أصحابها على التقليد الأعمى وسايروا سياسة السلطة, هو أن الوزير ابن العلقمي كان قد تعاون مع المغول وراسل هولاكو ومهّد له احتلال بغداد, وقد لاكت الألسن هذه التهمة وجرت الأقلام على تناقلها طوال قرون عديدة، وصار اسم ابن العلقمي مقروناً باللعنة والسخط من قبلهم، ووصفوه بالغدر والخيانة, بل وتعدّى الأمر إلى تخوين الشيعة كلهم بسبب كذبة وضعها رجل حاقد على ابن العلقمي والشيعة معاً كما سنرى.
إن مصادر تلك الفترة كلها تبرِّئ ابن العلقمي من هذه التهمة وتشير إلى المتهمين الحقيقيين في هذه المجزرة, كما تشير إلى أن الذين كانوا سبب وقوع هذه المأساة هم مَن ألصقوا هذه التهمة بابن العلقمي ظلماً وزوراً وروّجوا لها, ثم وجدت هذه التهمة من يتبنّاها من المؤرخين فأثبتها في تاريخه وتناقلتها بقية التواريخ حتى أصبحت لديهم من المسلمات لتبقى لصيقة بابن العلقمي وهي كذبة ستكشفها الحقيقة من مظانها.
ونرجو في هذا الموضوع أن نُوفّق بما تيسّر لدينا من مصادر تاريخية معتبرة في رفع الحيف عن بعض مَن جنى عليهم التاريخ, وكشف بعض الحقائق التي أخفاها المؤرخون ــ سهواً أو عمداً ــ ولا نريد هنا استعراض أقوال مؤرِّخي السلطة من الذين ألصقوا التهمة بابن العلقمي كذبا وافتراءً والتي خالفت الحقيقة لأنها:
1 ــ صاغتها الأهواء, وكل قول قد زاد على سابقه بما شاء صاحبه من اتباع الهوى والانحياز المذهبي.
2 ــ وقع فيها التناقض في المعلومات إلى الحد الذي استخف قائلها بعقله قبل عقول القراء.
3 ــ يشمُّ منها رائحة الحقد ليس على ابن العلقمي فقط، بل على الشيعة جميعاً، فهي فعلاً تصيب القارئ بالغثيان, ومن أراد أن يطالع ما يكنّه هؤلاء من الحقد على الشيعة فليراجع ما كتبه الأستاذ يوسف الهادي الذي استعرض هذه الأقوال، وفنّدها وكشف أباطيلها ودوافع أصحابها وأثبت براءة ابن العلقمي بما لا يدع مجالاً للشك (1)
فالدافع الأول والأخير لهذا الموضوع هو كشف الحقيقة, ولا يضير من قرأ الأقوال المضّادة لها من مؤرِّخيه، من الاطلاع عليها، إلّا إذا كان يخشاها ليبقى على جحوده لها, فالحقيقة لا تخيف إلّا من في قلبه مرض فيفرغ من خلاله عن حقده بخلافها بالطعن في طائفة تؤمن بالله وكتابه ورسوله وتقيم الفرائض, متذرِّعاً بكذبة على رجل كل جريمته أنه شيعي !
ولنفرض جدلاً أنها صحيحة كما يدّعي، فهل يسوغ له ذلك تخوين طائفة كاملة والتهجّم عليها ونعتها بكل ما هو شائن، ويمتدّ هذا التهجّم والسباب واللعن لهذه الطائفة عبر القرون إلى أجيال وأجيال وهي تخوّن وتُلعن بسبب هذه الكذبة ؟
ورغم أن الحقيقة التاريخية تثبت هذه التهمة على أناس من غير الشيعة، إلا أنه ليس من المنطقي, بل لا يمكن بأي حال من الأحوال إلصاقها بالطائفة التي ينتمون إليها ففي ذلك مخالفة صريحة للقرآن الكريم الذي يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ). (2)
هالة الخلافة
إن الذين وجّهوا أصابع الاتهام إلى ابن العلقمي وأغمضوا أعينهم عن الأسباب الحقيقية لهذه النكبة والمسببين الحقيقيين لها، لا تزال الهالة المزيَّفة على أعينهم في نظرتهم إلى الخليفة الحاكم المنزَّه عندهم من المعاصي والكبائر, بل وحتى اللمم رغم علمهم بظلمه وجوره واستخفافه واستهتاره بالأمة، وانهماكه في الفسوق والفجور والملذّات والشهوات ومعاقرته الخمر بين الراقصات والمغنيات.
فقد: (أدى عامل التذرّع بضرورة صيانة سمعة الخلفاء العباسيين لكونهم من أهل بيت النبي (ص)، ولا يجوز ذكر أي شيء يؤدي إلى التقليل من احترامهم إلى كتمان الكثير من الحقائق التاريخية الخاصة بواقعة الغزو المغولي للبلاد الخاضعة للحكم العباسي، ومرّ زمان ضاعت تلكم الحقائق وحلّ محلها حشد من الروايات التي ما لم يجد كاتبوها ما يعللون به الوقائع التي أدت إلى تلكم الكارثة أو أنه هالهم صدورها من أناس يحترمونهم كالخليفة مثلاً، بادروا إلى اختلاق ما تصوّروا أنه قد حدث على أرض الواقع، وانطلاقاً من هذه الرؤية التي تحترم الخليفة العباسي إلى هذا الحد، اندفع بعض هؤلاء وبحماس فعدّلوا الروايات التي وصلتهم أو حذفوا منها أو زادوا فيها، بل أن بعضهم ألّف نصوصاً من إنشائه وأدخلها في كتابه على أنها جزء من الوقائع التاريخية). (3)
وهذه التهمة التي ألصقت بابن العلقمي هي من الفقرة الأخيرة، فقد أُختُرِعت وأدخِلت في التاريخ وتناقلها المؤرخون فأصبحت من ضمن تاريخ هذه المرحلة, وقد اتخذ أصحاب هذه الكذبة ومن جاء بعدهم ممن تناقلها ذريعة للتشنيع على الشيعة، وعبّروا عن أحقادهم وكرههم بسيل من الأكاذيب حتى أنساهم حقدهم النظر إلى كل ما له علاقة بسقوط بغداد بيد المغول وتمسكوا بسبِّ ولعن ابن العلقمي والشيعة.
ابن العلقمي .. العربي
بلغ من تعصّبهم الأعمى أنهم سلخوا من ابن العلقمي حتى نسبه العربي ورموه على الفرس إمّا عمداً أو اشتباهاً وإن كان الاحتمال الأول هو الراجح، ورغم أن هذا الأمر لا يضرّ ولا ينفع فـ (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، إلا أنه يشكل لديهم حافزاً ومبرراً ــ وإن كان غير منطقي ــ لتعميم التهمة على أمة كاملة دانت بالولاء لأهل البيت (ع).
فالوزير ابن العلقمي هو عربي أسدي القبيلة (4) وليس هناك مصدر واحد يشير إلى غير ذلك، وهو بغدادي المولد والمسكن (5) وأصله من قرية النيل في الحلة, (6)، وهو مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن أحمد بن علي بن المحسن القصري الأسدي البغدادي المعروف بـ (ابن العلقمي), (7)، وهو صهر الوزير مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي الذي ولد في قم وسكن بغداد, وكان وزيراً للناصر لدين الله وابنيه الظاهر ثم المستنصر، وقد عزله الأخير وسجنه مع أفراد أسرته، فتوسّط ابن العلقمي لدى المستنصر لفكّه وقد وقع الالتباس بينهما كونهما يحملان نفس الاسم والكنية فابن العلقمي عربي والقمي فارسي. (8)
ويؤيّد ذلك ما ذكره الشيخ محمد رضا الشبيبي في ترجمة ابن العلقمي قوله في نسب ابن العلقمي: (كمال الدين أحمد بن محمد الأسدي القرشي النيلي الحاجب ... ) (9) وقد وقع الالتباس (لاشتراك شخصين في اسم واحد ولقب واحد وكنية واحدة في زمن واحد، وكل منهما وِلِي الوزارة مضافاً إلى ذلك أن بينهما قرابة ماسة) (10) فـ ابن العلقمي هو (أسدي الأصل بغدادي المسكن والمدفن) (11)
أما لقبه بـ (العلقمي) فقد ورد فيه ثلاثة أقوال، أولهما: أن جده حفر النهر المسمّى بـ (العلقمي) وقد سمي باسمه (12) وثانيهما: أن أحد أجداده من بني علقمة بن دارم من بني تميم (13)، ولكن هذا القول يتعارض مع كون ابن العلقمي أسدياً، والظاهر أن علقمة هذا غير التميمي، وهو الذي أشار إليه الشيخ محمد السماوي حيث يقول في أرجوزته:
وشقّ فناخسرو نهراً رسمه *** لكربــــلا وناطه بعلقمه
الأسدي جـدّ آل العلقمي *** فأصبح النهر إليه ينتمي (14)
أما القول الثالث في نسبة ابن العلقمي هو: (أن أسرته كانت تسكن قريباً من هذا النهر ثم نزحوا منه إلى النيل في الحلة، وإن المألوف لدى العرف العشائري أن النسبة إمّا أن تكون إلى الجد الأعلى للعشيرة، أو إلى المكان الذي تعرف به الأسرة) (15) وفي الاعتماد على أي من القولين الأول والثالث فإن لقبه جاء نسبة إلى هذا النهر. ولكن القول الثالث هو الأصح لوجود روايات في مصادر كثيرة تاريخية وجغرافية ولغوية تشير إلى أن هذا النهر ــ العلقمي ــ كان موجوداً قبل القرن الأول الهجري (16).
ولد ابن العلقمي عام (591هـ) في أسرة تميّزت بميزتي العلم والثروة فهو: (من بيت السؤدد والفضل والتقدم في جليل المناصب والتنقل في رفيع المراتب) (17) وقد انتقلت هذه الأسرة من الحلة إلى بغداد وزاول أفرادها مناصب عليا في الدولة كالكتابة والحجابة، كما كان أخوال ابن العلقمي في نفس المرتبة، ومنهم: خاله عضد الدين أبو نصر ابن المبارك المعروف بالأسدي القرشي البغدادي أستاذ الدار، وكان الناصر العباسي يعتمد عليه في سفاراته إلى خصومه، وقد عرف بالعلم والسياسة والتدبير كما كان يقرب العلماء والأدباء. (18)
كان لهذه البيئة العلمية والأدبية أثرها الكبير على ابن العلقمي فصقلت مواهبه وشخصيته فـ (اشتغل في صباه في الأدب ففاق فيه), درس الأدب في بغداد على يد أبي البقاء العكبري (شارح ديوان المتنبي) في بغداد، ثم لما بلغ مرحلة الشباب أرسلته أسرته إلى الحلة التي كانت في ذلك الوقت حاضرة من حواضر العالم الإسلامي ومركزاً علمياً مهماً، فدرس على يد رضي الدين (عميد الرؤساء) هبة الله بن حامد بن أحمد بن أيوب الحلي اللغوي الذي كان (متصدّر بلده).
وقد هيّأت له هذه الدراسة سلم الارتقاء في العلم والأدب، حيث عرف بحدّة ذكائه وحفظه وسرعة بديهته وصفاء ذهنه، كما ساعد على سرعة تعليمه ونبوغه حالة أسرته المادية الجيدة التي هيّأت له سبل النجاح، ومهّدت له طريق المجد، ووفرت له كل ما يحتاجه ليتفرغ للدراسة والبحث.
كانت المدارس العلمية والأدبية في الحلة في ذلك الوقت قائمة على قدم وساق، وهي تعجّ بالعلماء والأدباء والفقهاء، فوجد فيها ابن العلقمي ضالته المنشودة، ولقي فيها ما تتوق إليه نفسه، فلم تقتصر دراسته على يد (عميد الرؤساء)، بل حضر مجالس السادة آل طاووس، وهي من أبرز الأسر العلمية في الحلة آنذاك وكانت تربطه صداقة وثيقة مع أبرز أعلام هذه الأسرة وهو السيد رضي الدين علي بن طاووس الذي يعد من كبار علماء الإمامية, ومن أساتذة ابن العلقمي أيضاً المحقق الحلي والشيخ محمد بن أبي البركات الصغاني الذي أجازه.
إلى بغداد
عاد ابن العلقمي إلى بغداد وهو مسلح بسلاحي العلم والأدب وواصل دراسته في بغداد وصار له مجلس يجتمع فيه أهل العلم والأدب ويقصده المتعلمون فكان: (يفاوض كل من يدخل عليه من العلماء مفاوضة عاقل لبيب محصل) (19)
كما أشارت المصادر إلى نبوغه في العلم وتضلعه في الأدب وطول باعه في الفقه فأصبح من العلماء الأعلام في عصره فكان: (عالماً فاضلاً أديباً يحب العلماء ويسدي إليهم المعروف). (20)
و(كان من الفضلاء في الإنشاء والأدب والفقه) (21)
و(حصل على أنواع العلوم والفضائل والكرم الفطري ورسم على لوحة سطرة العلوم النقلية والعقلية والفنون المنثورة والمنظومة). (22)
و(كان من أهل الإنشاء المشهورين ومن الأدباء المرموقين). (23)
ونكتفي بهذه الأقوال وقد تركنا غيرها كونها تتشابه في المضمون وكلها دلت إضافة إلى علمه وأدبه، نزاهة نفسه، ونبل أصله، وكرم أخلاقه، وحميد خصاله.
أدبه وشعره ومكتبته
وُصف شعره بجزالة اللفظ وحسن السبك ورقة الشعور ودقة المعنى، وقد غلب عليه طابع التشاؤم واليأس, ولعل سبب ذلك الأحداث المريرة التي عاشها والفتن والمؤامرات التي حِيكت ضدّه، وهذا الموضوع يحتاج إلى دراسة خاصة لتسليط الضوء على خصائص شعره وشاعريته، وسنعرض بعض أشعاره بقدر ما يمت بصلة بالموضوع.
أنشأ ابن العلقمي مكتبة ضخمة، وجعلها وقفاً على الناس، فأصبح كل من يحتاج كتاباً ولا يستطيع شراءه يقصد مكتبته، فقد: (كان يحب أهل الأدب ويقرّب أهل العلم..) (24) وقد وصف ابن الفوطي مكتبته بالقول: (وكان ابن العلقمي قد ابتنى داراً للكتب افتتحها سنة (644هـ) ونقل إليها الكتب في جميع العلوم) (25)، ويقدر ابن الطقطقي عدد كتب هذه الدار بأكثر من عشرة آلاف كتاب من نفائس الكتب (26)، ويصف ابن أبي الحديد (شارح نهج البلاغة) والذي ألفه بإيعاز من ابن العلقمي هذه المكتبة ويذكر بعض الكتب التي احتوتها فيقول:
رأيـــــتُ الخزانــة قد زُيِّـنتْ *** بكتبٍ لهـــــا المنـظرُ الهائلُ
عقــــولُ الشيـــوخِ بـها ألّفتْ *** ومحصــوله ذاكَ والحـاصلُ
ولمّا مــــــــــــثلتُ بها قـائماً *** وأعجبني الـفضلُ والفـاضلُ
تمثّلتُ أسمــــــــــاءها مـنكمُ *** على النـــقلِ ما كـذّبَ الناقلُ
بها (مـجمعُ البحــــــرِ) لكنه *** من الجودِ ليــــسَ لـه ساحلُ
وفيها (المهذّب) من فضلكم *** و(مغنٍ) ولكـــــــــــــنه نائلُ
وفيها (الوسيط) بما نرتجيه *** وفيها (النهايةُ) و(الكــــاملُ)
وإن كـــــان أعوزها شامل *** فقد زادها جودُك الشـــــاملُ
وإن كان قـــد فاتها فائتٌ *** أبو الفضل في علمِهِ كاملُ (27)
وكان ابن العلقمي يوعز إلى العلماء بالتأليف، ويشجعهم على ذلك، وفتح باب مكتبته لهم وحثهم على نشر العلم، ومن الذين شملهم نوال ابن العلقمي فأشاد به وبمكتبته، أبو الفضائل الحسن بن محمد الصغاني صاحب كتاب (العباب في اللغة), والذي قرأ ابن العلقمي مؤلفاته كلها وأعانه كما أعان غيره من العلماء ودعمهم مادياً ومعنوياً، ورفع عن كواهلهم الحاجة والفقر، ووفر لهم ما يحتاجونه في حياتهم العلمية فكتب في مقدمة كتابه يشكر ابن العلقمي ويصفه بالعالم في وصف طويل مسجع منه قوله: (العالم العادل المؤيد المظفر ...) ثم يقول: (وشرفني بمطالعة مصنفاتي وارتضاء مؤلفاتي). (28)
كما وصفه ابن أبي الحديد في مقدمة شرحه نهج البلاغة وقد ألفه له بطلب منه: (ولا عجب أن يتقرّب بسيد الكتب إلى سيد الملوك، وبجامع الفضائل إلى جامع المناقب، وبواحد العصر إلى واحد الدهر، فالأشياء بأمثالها أليق، وإلى أشكالها أقرب، وشبه الشيء إليه منجذب ونحوه دان ومقترب) (29)
ولما فرغ ابن أبي الحديد من تأليفه ــ شرح نهج البلاغة ــ أكرمه ابن العلقمي غاية الاكرام وأهداه هدايا قيّمة غيّرت حاله إلى أحسن حال ورفع اسمه بتأليفه إلى مصاف العلماء وأهل الفضل، ولولا ابن العلقمي لما تم له ذلك كما يقول هو في القصيدة التي مدح بها ابن العلقمي وأرسلها إليه بيد أخيه أبي المعالي يقول في مطلعها:
أيا ربّ العبادِ رفـعتَ ضبعي *** وطلتُ بمنكبـــي وبللتُ ريقي
ويقول منها:
و(شرحُ النهجِ) لم أدركه إلّا *** بعونِكَ بعد مجهـدةٍ وضيــــــقِ
تمثّل إذ بدأت لــــــــه لعيني *** هناكَ كذروةِ الطــــودِ السحيقِ
فتمَّ بحسنِ عونِكَ وهـو أنأى *** من العيّــــوقِ أو بيضِ الأنوقِ
بآلِ العلقميِّ ورتْ زنـادي *** وقامت بين أهلِ الفضلِ سوقي (30)
أما بالنسبة إلى ابن العلقمي ــ المؤلف ــ فرغم أنه لم يصل إلينا أي أثر له، إلا أن هناك ما يدل على أنه خاض غمار التأليف, فقد ذكر المحقق الأربلي ما نصه: (ونقلت من كتاب جمعه الوزير السعيد مؤيد الدين محمد بن أحمد بن محمد بن العلقمي رحمه الله تعالى في باب مناقب الإمام محمد الباقر عليه السلام ...)، (31) والأربلي كان معاصراً لابن العلقمي وصديقه المقرّب، وهذا الحديث يدل على أن لابن العلقمي على الأقل مؤلفاً.
وقد أثنت كل كتب الشيعة على ابن العلقمي وأجمعت على توثيقه وفضله وعلمه:
يقول المجلسي: (وكان رحمه الله إمامي المذهب صحيح الاعتقاد رفيع الهمة ...) (32)
وقال بنفس هذا القول كل من النوري (33)، والحر العاملي (34)، والشيخ عباس القمي (35)، وقال الخونساري (وكان مؤيد الدين الذي هو من أكابر الشيعة في ذلك الزمان...) (36)
وليس أدل على تشيّعه الصحيح وصدق ولائه لأهل البيت (ع) من نشر علومهم وإبراز فضلهم على غيرهم، وبذله الأموال الكثيرة في سبيل ذلك، ومنها تكليفه ابن أبي الحديد لتأليف شرح نهج البلاغة وإكرامه على ذلك غاية الكرم.
كما أثنت كتب السنة عليه ووصفته بالعلم والحلم والفضل، يقول ابن شاكر الكتبي: (وكان وزيراً كافياً خبيراً بتدبير الملك ولم يزل ناصحاً لأصحابه وأستاذه ...) (37)
ويقول سبط ابن الجوزي: (كان رجلاً فاضلاً صالحاً عفيفاً ديناً قارئاً للقرآن) (38)
ويقول ابن الفوطي: (كان عالماً فاضلاً أديباً يجب العلماء ويسدي إليهم المعروف) (39)
ويقول الأشرف الغساني: (كان عالماً فاضلاً أديباً حسن المحاضرة دمث الأخلاق كريم الطباع خيِّر النفس كارهاً للظلم خبيراً بتدبير الملك لم يباشر قلع بيت ولا استئصال مال) (40)
أستاذ الدار
اشتهر اسم ابن العلقمي في بغداد، وأصبح اسمه يذكر على الألسن لعلمه وأدبه، وكان خاله عضد الدين ابن المبارك أستاذاً لدار الخلافة فراح ينوّه باسم ابن العلقمي ويشيد بعلمه وأدبه، فتم ترشيحه لمنصب (مشرف دار التشريفات)، أي (رئيس مفتشين) وهي وظيفة مهمة في القصر وقد استمر بهذه الوظيفة أكثر من اثنتي عشرة سنة وشهد له من في القصر على أمانته ونزاهته وعفته فارتقى لمنصب (أستاذ الدار) أو ناظر القصر، ويتبوأ هذا المنصب (شخصية لها خطرها وأهميتها) (41) وقد بقي فيه أربعة عشر عاماً قام خلالها بأعمال جليلة وقدم خدمات كثيرة للناس ذكرنا بعضها، ومنها إشرافه المباشر على بناء المدرسة المستنصرية التي لا تزال قائمة إلى اليوم.
بداية السقوط
في سنة (640هـ) مات المستنصر العباسي, وقد جرت العادة في مثل هذه الحالة أن يُعلن للناس وفاة الخليفة ومن يحكم بعده، وتُقدّم التعازي ومن ثم التهاني للخليفة الجديد على الملأ, ولكن لم يحدث أي شيء من هذا القبيل في هذه المرة ! فقد كُتم خبر موت المستنصر حتى على أقرب الناس إليه, بل وحتى على ولده، ووزيره ابن الناقد.
(والأغرب من ذلك أن الخطباء كانوا يخطبون باسمه ويدعون له بالسلامة والنصر على أعدائه وهو مسجّى على فراش الموت، وكانت أخبار موته تأتي على شكل رقاع لدعوة وجهت إلى ذويه وخاصته) (42)
(وكتم موته إلى أن بويع ولده أبو أحمد عبد الله ــ المستعصم ــ ثم خطب له على منابر بغداد وهو ميت ثم أشيع موته بعد ذلك) (43)
يثير هذا الأمر الجديد على الآلية المتبعة لتنصيب الخليفة والذي لم يعهده تاريخ الخلافة العباسية سابقاً كثيراً من الاهتمام والتساؤل والدهشة، ومما يزيده غرابة أن أكثر المؤرخين تعاملوا معه باعتيادية وكأنه أمر مألوف !
في تلك الفترة الحرجة من التاريخ الإسلامي حيث كانت جيوش المغول تجتاح البلاد الواحد تلو الآخر كانت مقاليد الأمور في بغداد بيد حزبين متنافسين متصارعين، أو بالأحرى شخصين وكل منهما يحاول بشتى الوسائل والطرق إظهار كفاءته وولائه للخليفة المستنصر.
الحزب الأول: بقيادة شرف الدين إقبال الشرابي وهو مملوك تركي (كان لعز الدين نجاح الشرابي وانتقل إلى زوجته بعد وفاته فلما أفضت الخلافة إلى الظاهر أرسلته إليه فقبله منها وأبعده رشيق ــ من مماليك الظاهر المتنفذين ــ وأنفذه إلى ولده المستنصر فلما دخل عليه قال له ما اسمك ؟ قال: إقبال فسُرَّ بذلك واستبشر وتفاءل به فلما أفضت الخلافة إليه قرّبه وقبض على رشيق وحبسه وجعل إقبال شرابياً ــ أي ساقياً ــ ثم جعله سرخيل العسكر وبعدها أصبح من أشهر قادة الجيش العباسي وأمرائه في عصري المستنصر والمستعصم وكانت الحلة من إقطاعاته ...) (44)
أما الحزب الثاني: فهو بقيادة مجاهد الدين أيبك المعروف بـ (الدويدار الصغير) وهو مملوك تركي أيضاً، وسُمِّي بالدويدار لأنه كان يحمل دواة الخليفة، ولقب بالصغير لأن أباه كان بهذا المنصب وكان يعرف بالدويدار الكبير فلما عجز وشاخ حل ابنه محله ولقب بالصغير، ثم صار من مستشاري المستنصر المقربين، ورغم قربه من الخليفة إلا أنه لم يستطع أن يصل إلى ما وصل إليه الشرابي في قربه من الخليفة وأن يحل محله في نفس المستنصر، فقد كان الشرابي أقرب الناس إلى المستنصر بل حتى أقرب من أهله وأخصّ خواصه. (45)
سبب كتم خبر موت الخليفة
كان من الطبيعي أن يكون الشرابي أول من يعلم بموت الخليفة فهو أقرب شخص إليه وهذا ليس بعجيب فقد كان الأتراك المماليك على اطلاع بكل أسرار البلاط العباسي وأسرار الخليفة, ولكن العجيب أن يُكتم خبر موت الخليفة، فقد كان المعتاد أن يحسم أمر الخليفة الجديد بمجرد أن يلفظ الخليفة الذي سبقه أنفاسه, لكن الشرابي أخفى خبر موت المستنصر وأوصى من علم بالخبر من خدم وموظفي القصر بكتمانه.
يقول ابن كثير: (وكتم موته أي المستنصر حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم) (46)
إذن مرّ يوم كامل والخليفة ميت ولا يعلم بموته غير الشرابي وعدة أشخاص أمرهم بكتمان الخبر، وحتى ابن المستنصر عبد الله والذي تولى الخلافة بعد أبيه ولُقِّب بالمستعصم لم يكن يعرف بخبر موت أبيه !
فما هي الغاية من وراء ذلك ؟ وما هو الهدف الذي سعى إليه الشرابي بعمله هذا ؟
ألا يدعو هذا الأمر إلى التساؤل والتنقيب عن الغاية بدلاً من كيل التهم بالمجان لشخص ليس له علاقة بالمتآمرين على الخلافة لا من قريب ولا من بعيد ؟ بل بالعكس فقد حاول بكل جهده أن يمنع دخول المغول إلى بغداد ومنع حدوث المجزرة، لكن المتآمرين جمّدوا حركته واتهموه بالخيانة، والعجيب أن المؤرخين أغمضوا أعينهم عن كل ذلك ولم يولوه أية أهمية تذكر رغم أنه كان الشرارة التي أحرقت بغداد وأدت إلى دخول المغول إليها وإبادتها !
لقد أعدّ الشرابي عدّته، وأحكم خطته، وحبك مؤامرته جيداً, فقد أراد هو أن ينصّب الخليفة الجديد بنفسه وقد اختار الخليفة الجديد الذي يضمن بتنصيبه بقاءه في منصبه وهيمنته على القصر وإصدار الأوامر والتخلص من الخصوم، ولن يتم له ذلك إلا إذا تولى الخلافة بعد المستنصر ابنه المستعصم الذي لم يكن مؤهلاً تماماً للقيام بأمور نفسه فضلاً عن الخلافة, ولنترك الحديث للتاريخ وهو يصف الطريقة التي تمت بها بيعة المستعصم رغم معارضة جميع أفراد بني العباس وأهل الحل والعقد من رجال البلاط وسياسيي الدولة.
يقول السيوطي: (واستدعي ــ أي المستعصم ــ من مسكنه بالتاج سراً من باب يفضي إلى ظهر داره وكان المستدعي له والقائم بأمر هذه الإنالة شرف الدين إقبال الشرابي المستنصري وأجلسه على سدة الخلافة وخاطبه بـ أمير المؤمنين ...). (47)
ويقول الدكتور سعد الغامدي: (بعد أن توفي الخليفة المستنصر والذي لم تعرف أسرته عن وفاته شيئاً إلا بعد مضي ما يقرب من ثمان وأربعين ساعة، جاء شرف الدين إقبال الشرابي وكان يعتبر أكبر رجل في البلاط إلى المستعصم بصفة سريعة وهو في بيته واطلعه على وفاة والده، كما قدم له التعازي ثم طلب منه أن يقبل أن يكون خليفة، فقبل المستعصم ذلك المنصب إلا أن أقرباءه رفضوا الانصياع بقبوله أن يكون خليفة) (48)
ويقول المؤرخ عباس العزاوي عن المستعصم: (ولما توفي والده بكرة الجمعة 10 جمادي الثانية لسنة 640 هـ 1242م لم يكن حاضراً فاستدعاه شرف الدين الشرابي من مسكنه سراً من باب يفضي إلى غرفة في ظهر داره، فحضر ومعه خادمه مرشد الهندي فسلم عليه الشرابي بالخلافة وأجلسه على سرير الخلافة وكان والده مسجى وكتم الأمر إلى ليلة السبت من الشهر المذكور) (49)
ولكن كيف استطاع الشرابي ارغام العباسيين على مبايعة المستعصم ؟
يقول ابن الفوطي: (واستدعي أحد أعمامه وهو أبو الفتوح حبيب، وأوهم أن جماعة من أخوته حضروا وبايعوه، فلما حضر لم يرهم فبايع، وعاد إلى داره بالفردوس ثم طُلب الباقون للمبايعة فامتنعوا ثم طلب القضاة والأمراء ...) (50)
وماذا فعل الشرابي مع الممتنعين عن المبايعة ؟
يقول ابن الساعي: (وأما أعمامه وكذا عم أبيه الممتنعون عن الحضور والمبايعة فأشير باستدامة غلق باب الفردوس الذي يحتوي على دورهم بحيث لا يدخل عليهم طعام ولا غيره فبقوا ثلاثة أيام فسألوا المبايعة وأحضروا فبايعوا). (51)
ويقول الغامدي: (وقد أخذ كل من رفض أن يبايع إلى سجن خاص فحُبسوا ومُنعوا من الطعام والشراب حتى شارفوا على الهلاك وأخيراً خضعوا لأوامر رجال البلاط وعلى رأسهم الشرابي فبايعوا مكرهين) (52)
بهذه الوسائل الإرهابية والمخادعة بُويع المستعصم رغم أنوف بني العباس التي جدعها وأذلها مملوك تركي ! ولكن إلى الآن لم تتضح الغاية كاملة من هذا الانقلاب وإن اتّضحت بعض خيوطه وستتضح أكثر في أوصاف شخصية المستعصم كما وصفه المؤرخون.
شخصية المستعصم
كان هذا الشخص إمّعة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى, وفي منتهى التفاهة والحماقة والنذالة والجهل والجبن والخسة والبخل, وهذه الصفات التي حملها قد انعكست على سياسته وأدّت إلى حلول الكارثة ببغداد، ورغم أن المؤرخين هم أعلم الناس بهذه الصفات إلا أن هالة الخلافة والأهواء المذهبية منعت المؤرخين من إظهارها تنزيهاً له، لكنهم لم يتورّعوا عن تخوين رجل حاول بشتى الوسائل وبذل غاية جهده دون دخول المغول بغداد وهو ابن العلقمي ولكن (لا رأي لمن لا يطاع) وهذه بعض الأقوال في وصف الخليفة:
يقول ابن كثير (53): (وكان المستعصم سنياً، ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه, ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم فاستقبح هذا من مثل الخليفة وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير بل (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ...) (54)
وأي خيانة أقبح من هذه الخيانة والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا) (55) وخليفة المسلمين يخون الأمانة ويستحل الوديعة !
والعجيب أن ابن شاكر الكتبي يذكر هذه الخيانة ثم يصف المستعصم بالتديّن فجاء قوله غاية في القباحة والتناقض حين يقول: (وكان المستعصم متديّناً متمسّكاً بمذهب أهل السنة والجماعة, على ما كان عليه والده وجده, ولم يكن على ما كانوا عليه من التيّقظ والهمّة, بل كان قليل المعرفة والتدبير والتيقّظ, نازل الهمّة محبّاً للمال, مهملاً للأمور يتّكل فيها على غيره, ولو لم يكن فيه إلا ما فعله مع الملك الناصر داود في أمر الوديعة لكفاه ذلك عاراً وشناراً, والله لو كان الناصر داود من بعض الشعراء, وقد قصده وتردد عليه على بعد المسافة ومدحه بعدة قصائد كان يتعيّن عليه أن ينعم عليه بقريب من قيمة ووديعته من ماله, فقد كان في أجداد المستعصم بالله من استفاد منه آحاد الشعراء أكثر من ذلك...) (56)
وهنا يتّضح لم عارض بنو العباس بيعة رجل هو بهذا المستوى من الانحطاط والخسّة وبهذه الصفات الرذيلة .. وابن شاكر أعرف بباقي مخازي المستعصم وموبقاته لكنه يتعمّد الغموض فيقول: (إلى غير ذلك من الأمور التي كانت تصدر عنه مما لا يناسب منصب الخلافة, ولم تتخلق بها الخلفاء قبله) !
ما هذا التناقض يا ابن شاكر ؟ ألم تقل: (أنه كان متديّنا متمسكاً بمذهب أهل السنة والجماعة على ما كان عليه والده وجده) ؟ فأيّ دين هذا الذي يبيح استحلال الوديعة وخيانة الأمانة ؟ إضافة إلى أمور أخرى مشابهة لها أنت تعرفها جيداً قبل غيرك ولكنك أغضيت الطرف عنها حفاظاً على سمعة الخلافة.!
ثم لما اتضح لابن شاكر أن هذه (الأمور) هي التي أدت إلى نزول البلاء ببغداد ووقوع الكارثة بها، وأن الخليفة هو السبب الرئيسي لها عزى ذلك إلى إرادة الله فقال:
(فكانت هذه الأسباب كلها مقدمات لما أراد الله تعالى بالخليفة والعراق وأهله) !
قال ذلك رغم أن الله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). (57)
أما الأمور الأخرى التي لم يستطع ابن شاكر أن يذكرها وخان الحقيقة فيها فنجد ذكرها عند ابن الطقطقي حيث يقول:
(وكان المستعصم آخر الخلفاء شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني, لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة, وكان ندماؤه وحاشيته جميعاً منهمكين معه على التنعم بالملذات...) (58)
ويقول أيضاً: (كان ــ أي المستعصم ــ مستضعف الرأي قليل الخبرة بأمور الملك غير مهيب في النفوس ولا مطلع على حقائق الأمور وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرّج على المساخرة) (59)
وفي الوقت الذي كان هذا حال الخليفة والقصر, كان المغول يواصلون زحفهم وهم يحتلون البلد تلو الآخر (فكتبت للخليفة الرقاع وفيها أنواع التحذير وألقيت فيها الأشعار، وكل هذا وهو عاكف على سماع الأغاني واستماع المثالث والمثاني وملكه أصبح واهي المباني) (60)
ونرى في أبيات أحد شعراء (الدولة المستعصمية) حال الناس والواقع المزري الذي وصلت إليه البلاد وهذا الشاعر هو مجد الدين النشابي الإربلي الذي يقول:
يا سائلي ولمحـــــــضِ الحقِّ يرتادُ *** أصخ فعنــديَ نشدانٌ وإنشادُ
واضيعة الناسِ والدينِ الحنيفِ وما *** تلقاهُ من حادثاتِ الدهرِ بغدادُ
قتلٌ وهتكٌ وأحــــــــداثٌ يشيبُ لها *** رأسُ الوليـدِ وتعذيبٌ وأصفادُ
وفيما تعيش البلاد الكوارث والمجاعة التي أضرّت بالناس كان الخليفة منهمكاً بملذاته، وكلما قيل له إن العدو على الأبواب قال: تكفيني بغداد ! في مثل هذه الظروف الصعبة للغاية تسلم ابن العلقمي الوزارة وكانت البلاد في أمس الحاجة إليه، ولكن المتآمرين على البلاد وقفوا في وجهه وقيّدوا حركته وكادوا له فكان كما قال:
كيف يُرجى الصـلاحُ في أمرِ قومٍ *** ضيَّعوا الحزمَ فيه أيَّ ضياعِ
فمطــــــــــــاعٌ وليسَ فيه سدادٌ *** وسديدُ المقـالِ غير مطاعِ (61)
ولعل أغرب حادث في تلك الفترة هو: أن والي الموصل بدر الدين لؤلؤ الأرمني وصل إليه في يوم واحد كتابان، الأول: من المستعصم يطلب منه جماعة من المطربين والمغنين والعازفين، والكتاب الثاني من هولاكو يطلب منه المنجنيقات وآلات الحصار لاقتحام بغداد ! فقال لؤلؤ: انظروا إلى المطلوبين وابكوا على الإسلام وأهله ! (62)
ولكن لؤلؤ لم يذرف دمعة واحدة على الإسلام، بل أعان أعداء الإسلام على المسلمين فأرسل لهولاكو المنجنيقات مع جيش لمعاونته على غزو بغداد بقيادة ابنه !! (63) ولم يكتف بذلك بل قدم لهم خطة مكنتهم من الانتصار (64) وكانت تربطه مع المغول علاقة قوية ومتينة، (65) ولكن الغريب أن لا تجد من المؤرخين من يصفه بالخيانة ؟ ولؤلؤ هذا هو صهر الدويدار وشريكه في المؤلمرة على ابن العلقمي للإطاحة به. (66)
الخفاجي العباسي
هذا الاسم يلوح في تلك الفترة كشخصية عباسية حازمة، وذات عزم وهمة ومقدرة ليس على دفع الأخطار عن بغداد فحسب, بل على دحر العدو في عقر داره وهو عمّ المستعصم وأجدر رجل من بني العباس بالخلافة في تلك المرحلة الحرجة، يقول السيوطي عنه:
(وكان يقول: لئن وليت لأعبرن بالعسكر نهر جيجون وآخذ البلاد من أيدي التتار واستأصلهم، فلما مات المستنصر لم ير الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي خوفاً منه وأقاما ابن أخيه أبا أحمد للينه وضعف رأيه) (67)
إذن فقد كان استخلاف المستعصم فرصة ذهبية للسيطرة على البلاد والقضاء على الإسلام، وجدها خصوم الدولة في الداخل والخارج فاستفادوا منها واستغلوها أفضل استغلال.
يقول اليونيني: (وكان للمستنصر أخ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشجاعة والشهامة وكان يقول: إن ملكني الله تعالى أمر الأمة لأعبرن بالعساكر نهر (جيجون) وانتزع البلاد من يد التتار وأفنيهم قتلاً وأسراً وسبياً فلما توفي المستنصر بالله لم ير الدويدار والشرابي وكانا غالبين على الأمر تقليده الخلافة خوفاً منه لما يعلمون منه من استقلاله واستبداده بالتدبير دونهم وآثروا أن يليها المستعصم بالله لما يعلمون من لينه وانقياده ليكون الأمر إليهم) (68)
ويقول السبكي بعد أن يذكر قول الخفاجي: (فلما توفي المستنصر كان الدويدار والشرابي أكبر الأمراء وأعظمهم قدراً فلم يريا تقليد الخفاجي الأمر خوفاً منه وآثرا المستعصم علماً منهما بلينه وضعف رأيه لتكون لهما الكبرياء فأقاماه) (69)
ويقول الغامدي: (إن الشرابي والدويدار اختاروا المستعصم بصورة متعمدة من بين أضعف شخصيات أفراد البيت العباسي، وذلك لكي يتمكن رجال وحاشية بلاط الخلافة في الاستمرار في هيمنتهم وتحكمهم في جميع الشؤون المتعلقة بالدولة) (70)
ولم يكن الخفاجي هو الشخص الوحيد المؤهّل للقيادة في تلك المرحلة، بل أن هناك عدة أشخاص من بني العباس لو استخلفوا لما وقعت تلك المجزرة الرهيبة والمذبحة الفظيعة، يقول الشيخ محمد حسين الساعدي: (والذي يظهر لنا من خلال تلك النصوص أن هناك أكثر من شخصية عباسية لها من مقوّمات الزعامة والقدرة على إدارة دفة الحكم ما يجعل ترشيحها ضرورة ملحة وبخاصة حينما لم يكن هناك من نص بولاية العهد إلى المستعصم، وإن شخصية مثل الخفاجي العباسي ــ وهو عم المستعصم ــ الذي أجمع المؤرخون على قوة شخصيته بل كان أكثر حزماً وأسدّ رأياً من أخيه المستنصر، إن شخصية كهذه لا يمكن إغفالها في مثل تلك الظروف الحرجة التي تعيشها الأمة وترزح تحت نيرها). (71)
فأين ابن العلقمي من هذه المؤامرة ؟ ولِمَ كِيلت له التهم جزافاً وبُرِّئت ساحة الدويدار والشرابي ولؤلؤ و.. الخليفة ؟