نعم أتذكر حيث كنت طفلة وتراءت أمامي تلك الاحداث وكأنها تطبع في فكري أنطباعا لن يزول أبد الدهر لن يزول الا بزوال الحياة . فقد كان يحتظن ذلك البيت بستان أخضر تمثلت به بهجة الطبيعة واشراقة الحياة. تلك الارض اليانعة وتلك النخيل الباسقة وتلك الاشجار المثمرة .حيث الاعناب والرمان ،حيث الموز والتين المتدلي على الاغصان.
كانت جنة البلابل التي تغني للحياة بأعذب الالحان. كانت كل تلك الرياض والجنان معمل الشباب ،محل عمل الشيخ منبعه ومبدعه حيث نبع من تلك الارض وجعلها موطن أبداعاته.
أيام ماأحلاها عاشتها طفلة في تلك الاجواء الساحرة حيث كانت تراقب الطيور،تحاور الفراش . ترسم العمر بأحلى صورة ،تتأمل تتطلع للمستقبل . تعشق الارض تحب كل ما فيها حتى ذلك الكوخ القديم الذي كان في نهاية البستان ورائحة الشاي التي كانت تفوح من بابه الصغير حيث أحتوى على موقد لاشعال النار وأبريق شاي يشكو الدخان والرماد اللذين لم يفارقهما طيلة حياته وكم قدح لشرب الشاي ووعاء صغير يضم تلك الاقداح. تجلس تلك الطفلة وتتأثر بكل شي حتى بتدخين جدها للسيكارة وسعاله المستمر من أثر التدخين، حيث تتصور كل ذلك وكأنها قصة تجتثها من جذورها الواقعية وكأنها تأمل أن تضعها يوما ما على الورق في يوم من الايام .حيث كانت تجلس أمام الموقد مع جدها وعمامها وتشرب الشاي معهم .تتطلع كيف كان ذلك الشيخ يعيش حياة حلوة بسيطة، كانت نظرات عينيه قوية توحي بالرهبة وسواعده قوية تحرث الارض وتزرعها. تسمع صوته المدوي من على بعد حيث يصل من أقصى الارض الى أقصاها حيث كان بيت العائلة مسكن الشباب الذين فرقتهم الحياة فيما بعد في بيوت شتى وأفردت لكل واحد منهم حياة تختلف عن حياة ذلك الشيخ الكهل . كانت ترتجف لصيحته كأنها سعفة في مهب الريح وكان يعتريها شعور لايفارقها بالمرح والغبطة . هكذا أنتمت وتعايشت مع الاجواء وليتها دامت ،لكن تشاء الاقدار ان تسدل على ما كان الستار فتأتي عاصفة عاتية هزت الارض ،أسقطت الاوراق ،كسرت الاغصان ثم أقتلعت الشجر وراحت غابة الحناء ادراج الرياح ولم يبقى منها الا الذكرى وتهدم ذلك البيت العتيق ولم يبقى منه الا اكوام من التراب التي بعثرها الزمن وكأنه يعلن النهاية لتلك الارض الغضة وتلك الاجواء الساحرة . اما الطود الشامخ فقد فارق الحياة ورحل كما رحلت أرضه وبيته ولم يبقى منها الا ساحة واسعة تجوبها الكلاب كأنها ترثي صاحبها وترفض الحياة بعده .على تلك الديار السلام والرحمة والغفران لمن عاش بها من الانام.
فضيلة محمد